أحمد عبد الرحمن*

يبدو أن قائمة التحدّيات التي تواجهها “إسرائيل” في المنطقة سيُضاف إليها تحدٍ آخر لا يقل أهمية عن التحديات الأخرى، فإضافة إلى ما تواجهه “الدولة العبرية” من مشكلات على مستوى الذراع البرية للجيش من قبيل عدم الجاهزية القتالية للقوات، مروراً بالإخفاق المتكرر على مستوى منظومات الدفاع الجوي التي واجهت فشلاً عملانياً ذريعاً في معظم المواجهات التي خاضتها “إسرائيل” في السنوات الأخيرة، وليس انتهاءً بالفشل في مواجهة قدرات محور المقاومة على صعيد الطائرات المسيّرة، والذي ثبَت بالدليل العملي القاطع أنها ستؤدي دوراً مهماً ومحورياً في أي مواجهة عسكرية قادمة.

إلى جانب كل تلك التحدّيات يبرز تحدٍّ آخر وهو التحدي البحري، الذي كانت فيه “إسرائيل” حتى سنين قليلة تؤدي دور البطل الأوحد، وكانت تستخدم سلاح البحر التابع لها لتنفيذ جملة اعتداءات وجرائم، سواء داخل البحر أو خارجه.

واذا عدنا إلى الوراء قليلاً نجد أن الذراع البحرية الطويلة لـ “إسرائيل” كانت تقوم بعمليات قرصنة حقيقية في المياه الدولية ضد كل من تُصنّفه عدواً لها ولمشروعها العدواني، ففي كانون ثاني/يناير 2002 اعترضت البحرية الإسرائيلية سفينة “كارين A” في عرض البحر، بذريعة أنها تحمل أسلحة من إيران إلى قطاع غزة وصادرتها، وفي تشرين ثاني/نوفمبر 2009 سيطرت على سفينة ادعت أنها محملة بأسلحة ووسائل قتالية لمصلحة حزب الله اللبناني، حتى في الحروب الصهيونية على قطاع غزة كان لسلاح البحرية الإسرائيلي دور مهم وأساسي في عمليات القصف والتدمير التي كانت تستهدف المنشئات المدنية والخِدْمية ومنها ميناء غزة الخاص بالصيادين الفلسطينيين.

أضف إلى ذلك قيامها فجر الحادي والثلاثين من أيار/مايو عام 2010 بمهاجمة سفينة “مافي مرمرة” التي كانت تحمل ناشطي سلام من أكثر من37 بلداً لكسر الحصار عن غزة، ذلك الهجوم الدموي أدى إلى مقتل 10 ناشطين وإصابة أكثر من 50 آخرين، فضلاً عن عمليات الإنزال التي كانت تنفذها تلك القوات على كثير من سواحل الدول العربية لاغتيال قادة المقاومة الفلسطينية، كما حدث في بيروت عام 1973 حينما اغتيل الشهداء الثلاثة: كمال عدوان، كمال ناصر، وأبو يوسف النجار، في عملية فردان، وفي تونس عام 1988 عندما اغتيل الشهيد خليل الوزير “أبو جهاد”.

كل تلك العمليات التي ما زال بعضها سرياً حتى الآن كانت تُنفّذ من دون أي عوائق تُذكر، وكانت الزوارق والسفن الحربية الإسرائيلية تجوب البحار وتنفذ الاعتداءات من دون أن يتصدى لها أحد، الاستثناء الوحيد في هذا المجال الذي فاجأ الجميع، وفي مقدمهم العدو الصهيوني، وكان في عدوان تموز على لبنان عام 2006، حين استهدف حزب الله السفينة الحربية الإسرائيلية “ساعر 5” قبالة شواطئ بيروت. ومنذ تلك اللحظة بدأت القوات البحرية للعدو باتخاذ إجراءات حماية جديدة تخوفاً من استهدافها، خصوصاً في ظل توارد معلومات لدى أجهزة استخباراتها عن وجود صواريخ أرض-بحر حديثة في حوزة فصائل المقاومة في المنطقة.

هذه المعلومات يبدو أنها دفعت الزوارق والسفن الحربية الإسرائيلية إلى عدم الاقتراب من شواطئ قطاع غزة في معركة وحدة الساحات في آب/أغسطس الماضي، كما نشر موقع “الميادين نت” نقلاً عن مصادر في المقاومة الفلسطينية، ورجحت تلك المصادر أن غياب السفن عن شواطئ القطاع أو المشاركة في تلك المعركة كما جرت العادة كان نتيجة تخوف إسرائيلي من امتلاك حركة الجهاد الإسلامي صواريخ أرض-بحر بإمكانها إصابة قطعها البحرية.

ولكن بالعودة إلى الاعتداءات الإسرائيلية في عرض البحر، نجد أن تلك العمليات قد اتخذت شكلاً آخر، ووسعت مجال هجماتها لتشمل سفناً تجارية وناقلات نفط بعدما كانت مقتصرة على ما يُعتقد أنها نشاطات عسكرية، حيث قامت البحرية الإسرائيلية عام 2019 بمهاجمة نحو 12 سفينة نفط إيرانية كانت في طريقها إلى سوريا، واستمر هذا الاستهداف في عامي 2020 و2021 أيضاً، أحد هذه الاستهدافات كان ضد سفينة “إيران ساويز” التي تقدم مساندة لوجستية للقوات التي تعمل في حماية السفن التجارية، وسفينة أخرى قرب ميناء بانياس السوري أدى إلى مقتل 3 من أفراد طاقمها. “إسرائيل” بطبيعة الحال لم تعلن مسؤوليتها عن تلك العمليات، كما هي العادة، ولكن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية كشفت أن “إسرائيل” هي التي تقف خلف تلك الاستهدافات، معللة ذلك بأن تلك السفن كانت تنقل نفطاً إيرانياً وأسلحة إلى الدولة السورية، وأضافت الصحيفة أن تلك الاستهدافات نُفذت بواسطة ألغام بحرية أو من خلال هجمات صاروخية أو عبر الطيران المسيّر.

هذا التغيّر في نوعية السفن المستهدفة قوبل برد فعل في الساحة نفسها وبالأسلوب نفسه تقريباً، إذ تعرضت سفن العدو التجارية لهجمات عديدة في منطقة الخليج وبحر العرب في سابقة لم يعهدها من قبل، تلك الردود وُصفت حينذاك بأنها تصعيد خطر يمكن أن يعرّض أمن التجارة العالمية للخطر، وهو مقدمة لمواجهة واسعة سمّاها بعض المراقبين “حرب الناقلات”، حيث وجهت “إسرائيل” وأميركا أصابع الاتهام نحو إيران التي نفت بدورها كل تلك الاتهامات.

ففي شباط/فبراير 2021، تعرضت سفينة “إم في هيليوس راي” الإسرائيلية للاستهداف بصاروخين في خليج عدن، تبع ذلك هجوم آخر في الخامس والعشرين من آذار/مارس من العام نفسه حين أُصيبت سفينة شحن مملوكة لشركة “إكس تي مانجمنت” الإسرائيلية بصاروخ في بحر العرب.

وتواصلت الهجمات على السفن الإسرائيلية، إذ تعرضت سفينة إسرائيلية لهجوم بصاروخ قبالة سواحل الإمارات في نيسان/أبريل 2021، بعد ذلك بشهرين تعرضت الناقلة “ميرسر ستريت” التي تشغلها شركة “زودياك ماريتايم” المملوكة لرجل أعمال إسرائيلي لهجوم قبالة سواحل عُمان، ما أدى إلى مقتل اثنين من طاقمها.

أدركت “إسرائيل” بعد تلك الهجمات أنها ليست صاحبة اليد الطولى والوحيدة في عرض البحر، وأن هناك قوى أخرى في المنطقة لديها إمكانات لتدفيعها الثمن جراء ما ترتكبه من اعتداءات وجرائم، وقد دفع هذا الأمر العدو إلى وقف استهدافه السفن الإيرانية حتى وقتنا هذا على الأقل.

ولكن، هل انتهى مسلسل المواجهة البحرية عند هذا الحد؟ وهل باتت “إسرائيل” مطمئنة إلى سير عملياتها التجارية البحرية بعد هذا التوقف المتبادل للاستهدافات؟ مع العلم أن “إسرائيل” تعتمد على التجارة البحرية في نقل أكثر من 90% من وارداتها وصادراتها، فيما يحتل النقل الجوي والبري النسبة المتبقية.

هذا السؤال رد عليه “تقرير استراتيجي بحري” صدر عن مركز أبحاث السياسة والاستراتيجية البحرية في جامعة حيفا نهاية العام الماضي، حيث حذر التقرير من إمكانية تعرض “إسرائيل” في حال اندلاع مواجهة إقليمية واسعة لحصار بحري من قوى “محور المقاومة” بساحاته المختلفة، ومن شأن ذلك الحصار أن يُدخل هذه الدولة في أزمة لن تستطيع الصمود فيها، أو في مواجهة آثارها الكارثية، وأشار التقرير إلى 5 جبهات يمكن أن تشارك في هذا الحصار، وهي: إيران وسوريا ولبنان واليمن وقطاع غزة.

ونحن بدورنا نتساءل هل من الممكن فعلاً تنفيذ ذلك الحصار على أرض الواقع! وهل تملك القوى التي تتخوّف منها “إسرائيل” إمكانيات وقدرات تساعدها في تنفيذه! وهل لدى “إسرائيل” خيارات لمواجهة ذلك التهديد وإيجاد السُبل للتغلب عليه!

بنظرة متأنّية على خريطة الطرق والممرات البحرية التي تستخدمها “إسرائيل” للتبادل التجاري مع دول العالم نجد أنها جميعها تقع في مرمى نيران أعدائها المشار إليهم آنفاً؛ فإيران العدو اللدود لـ”إسرائيل” تشرف على الخليج وبحر عُمان بسواحل يبلغ طولها نحو 2400 كيلومتر، وتستطيع بكل بساطة استهداف أي سفينة أو ناقلة متجهة إلى “إسرائيل”، ولديها إمكانيات عسكرية كبيرة في هذا المجال، سواء على مستوي الصواريخ أو الطائرات المسيرة، هذا إضافة إلى إشرافها على أحد أهم المضايق البحرية في العالم وهو “مضيق هرمز”، الذي يعطيها مزيداً من الأفضلية لضيق ممرّه المائي الذي لا يتعدى 50 كيلومتراً في أحسن الأحوال، كذلك تستطيع إيران استهداف السفن الإسرائيلية أو التي تنقل التجارة إلى “إسرائيل” في المحيط الهندي وفي البحر الأحمر أيضاً.

هذه الحال تنطبق على سوريا والمقاومة اللبنانية أيضاً، فهما يملكان كل الأدوات التي يمكن من خلالها استهداف سواحل فلسطين المحتلة، وهذا الاستهداف يمكن أن يشمل السفن التجارية المتجهة إلى تلك السواحل، أو الموانئ الإسرائيلية التي تقوم بعمليات شحن البضائع وتنزيلها، وعلى رأس تلك الموانئ ميناء حيفا الذي يُعد الميناء الرئيس في “إسرائيل”، ويمر منه ما يقارب 30 مليون طن من البضائع سنوياً، ويطل على البحر المتوسط برصيف يبلغ 3 كيلومترات تقريباً، وفيه مرافق عسكرية، وصناعية وتجارية بجانب مرافق سفن الرحلات السياحية.

أما اليمن وقطاع غزة فهما يملكان أيضاً إمكانية لتعطيل حركة سفن الشحن البحري لإسرائيل، فاليمن يتميز بموقع بحري استراتيجي مهم جداً، فهو يملك جبهة بحرية تمتد بطول 2500 كيلومتر، وهو يطل على بحر العرب وخليج عدن من الجنوب، وعلى البحر الأحمر من الغرب، إضافة إلى تحكّمه بمضيق “باب المندب” الذي يشكّل عنق زجاجة لدخول البحر الأحمر والخروج منه، وقد نجحت القوات المسلحة اليمنية التابعة لحكومة صنعاء في استهداف عدد من السفن الحربية السعودية والإماراتية في إطار الرد على العدوان على اليمن، وهذا الأمر يمكن أن يتوسّع ليشمل السفن الإسرائيلية في مرحلة معينة. أما قطاع غزة فإمكاناته محدودة قياساً على إمكانات الساحات الأخرى، ولكنه يملك بحسب المصادر الإسرائيلية ما يمكنه من استهداف موانئ العدو، وهذا بحد ذاته سيؤثّر سلباً في حركة التجارة الإسرائيلية.

هذا التحدي البحري تأخذه “إسرائيل” على محمل الجد، وهي تحاول القيام بخطوات استباقية للحيلولة دون تحقّقه، أو على أقل تقدير للحد من آثاره وتبعاته، حيث أجرت البحرية الإسرائيلية مناورة مشتركة مع الأسطول الخامس الأميركي في خليج العقبة على البحر الأحمر في آب/أغسطس العام الماضي، وقال بيان صادر عن الجانبين إن المناورة تهدف إلى ضمان الاستقرار البحري والأمن والملاحة بين البحر المتوسط والمحيط الهندي عبر المضايق الاستراتيجية في المنطقة، وكذلك الحفاظ على طرق التجارة البحرية من أجل الاستقرار الإقليمي” على حد وصف البيان.

كذلك تعمل “إسرائيل” لفتح طريق للتجارة البرية مع دول الخليج، وهذا المشروع في حال نجاحه سيكون مُتنفّساً حيوياً لها في حال تعطلت التجارة عن طريق البحر، هذا إضافة إلى تعزيز الرحلات الجوية المباشرة التي تجري بين الجانبين، والتي يمكن أن تساعد إلى حد ما في عمليات التصدير والاستيراد الإسرائيلية وإن على نطاق محدود، بسبب أن الشحن الجوي غير ملائم للمنتجات الكبيرة أو الثقيلة وهو مكلّف جداً.

ختاماً يمكننا أن نصل إلى خلاصة مهمة وهي: أن “إسرائيل” أمام تحديات كثيرة وخطرة، وهي تعاني على غير صعيد ومستوىً، والمرحلة التي كانت تمارس فيها عدوانها في البر والبحر والجو من دون تلقّي الرد المناسب انتهت إلى غير رجعة، وأصبح لدى محور المقاومة بساحاته وقواه المختلفة أنياب وأظافر يمكنها أن تخدش الجسد الإسرائيلي وتصيبه بجراح بالغة، قد تتسبب بمقتله في يوم ما.

المطلوب فقط مزيد من مراكمة أسباب القوة لدى قوى أمتنا الحية، وتوحيد مزيد من الجبهات في وجه هذا السرطان الذي تمدّد بما فيه الكفاية وحان وقت استئصاله، الزمن الآتي لن يكون زمناً إسرائيلياً، ولا أميركياً، ومرحلة علو واستكبار بني إسرائيل في طريقها إلى الأفول والانحسار بلا أدنى شك.

* المصدر : الميادين
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع