وليد القططي*

 

للفتوى في الإسلام أهمية عظيمة في حياة المسلمين، وقد أفرد ابن قيّم الجوزية لها كتاباً عنوانه (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، توضيحاً منه لأهمية الفتوى وخطرها لكون المُفتي في بيان حكم الدين في أفعال العباد يُبلّغ عن الله تعالى، ولكونه الواسطة بين الله وخلقه في بيان الحلال والحرام لمن استفتاه، خصوصاً في المواضيع التي “يكثر فيها الالتباس والخفاء، وتكثر فيها الأهواء والباطل”.

وليس من مواضيع يكثر فيها الالتباس والأهواء أكثر من المواضيع السياسية، التي تتضارب فيها الفتاوى، وتتناقض فيها الآراء، وتتداخل فيها المصالح بالمبادئ، وتتشابك فيها الأهواء بالحكمات، وتتصارع فيها الرُخص بالعزائم..

ومن هذه الفتاوى السياسية بيان مجموعة من علماء المسلمين في صورة نصيحة لحركة حماس بالعودة عن قرارها استئناف علاقتها بسوريا.

بيان (علماء المسلمين) الذي جاء على شكل نصيحة أشبه بالفتوى الشرعية، رأى أنَّ عودة تلك العلاقة بين حركة حماس والدولة السورية فيها “مفاسد عظيمة”، وأنها “لا تتفق والقيم والمبادئ والضوابط الشرعية” من دون توضيح مضمون تلك المفاسد العظيمة ولا الضوابط الشرعية.. وما اتضح فقط هو رغبة هؤلاء النخبة من العلماء في منع استئناف العلاقة المتوّقفة منذ 10 سنين، وأنهم في انتظار رد قادة حماس على بيانهم أو فتواهم كي يقوموا بما سمّوه “الواجب الشرعي الملائم للموقف”، الواجب الشرعي الذي كان غائباً في كثير من الأحداث المُلتبسة، والعلاقات المشتيه فيها، والمواقف المُخزية، الواجب الشرعي الذي يختفي عند الحاجة إليه ويظهر عند الزهد فيه، الواجب الشرعي الذي يصمت أصحابه عند الحاجة إلى الكلام، ويتكلم أصحابه عند الحاجة إلى الصمت.

الواجب الشرعي الذي تحدّث عنه السادة العلماء غاب عندما كان حزب العدالة والتنمية-الإسلامي – ممثلاً في رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني يُمثل دور المُحلل للتطبيع المغربي-الإسرائيلي. وغاب عن كل (اتفاقيات أبراهام) العربية – الإسرائيلية برعاية أميركية.

الواجب الشرعي المذكور في فتوى (علماء الأمة) غاب عن كل قرارات تجريم المقاومة اللبنانية والفلسطينية ووصمها بالإرهاب من الأنظمة العربية الحاكمة الدائرة في الفلك الأميركي، وغاب عن كل محاولات تشويه أو ترويض المقاومة عربياً.

الواجب الشرعي العظيم غاب عن مسلسل تعزيز التحالف الأمني والاقتصادي بين تركيا الإردوغانية والكيان الصهيوني، وغاب عما يجري الآن من تشكيل لتحالف عسكري عربي-إسرائيلي برعاية أميركية ضد محور المقاومة.

الواجب الشرعي غاب عندما صوبت بندقية الجهاد في كل اتجاه ما عدا فلسطين، وأُعيد استدعاء فتاوى “أولوية قتال المرتدين على الكفار الأصليين” وكذلك “أولية الجهاد في سوريا على فلسطين”.

إن ترك هذه الواجبات الشرعية التي تخدم مشروع التحرير بواسطة تقوية جبهة المقاومة، والذهاب إلى (واجب شرعي) في الاتجاه المعاكس لمشروع التحرير بواسطة إضعاف جبهة المقاومة، يجعل هذا الواجب المزعوم فتوى خارج السياق، نظراً إلى كونها تأتي في سياق خدمة المشروع المُضاد لمشروع المقاومة والتحرير، خصوصاً في الوقت الذي يأتي فيه الرئيس الأميركي جو بايدن لزيارة المنطقة بهدف أساسي هو إقامة (ناتو عربي إسرائيلي) ضد محور المقاومة أو حلف القدس.

وهي تأتي كذلك في إطار ربط حركات المقاومة الفلسطينية بتحالفات ليس لها علاقة بمشروع تحرير فلسطين، وعزلها عن عمقها العربي والإسلامي ممثلاً في محور المقاومة الداعم الوحيد لمشروع تحرير فلسطين، ويصب في اتجاه ترسيخ مساري (اتفاقيات أبراهام): سلام إسرائيلي، وإسلام أميركي، وهذا يجعل ذلك الواجب الشرعي مُنسجماً مع الهدف الصهيو-أميركي يتحقق بالبترودولار العربي نحو تشويه المقاومة أو ترويضها، وتشويه الإسلام أو ترويضه؛ وتفكيك الأمة بدلاً من جمعها ولم شملها.

فتوى العلماء المُحذرة من عودة العلاقة بين حركة المقاومة الإسلامية حماس والدولة السورية، تكشف عن أزمة سياسية فكرية في العلاقة بين الفتوى والواقع لها وجوه عديدة، خصوصاً لدى ما يُعرف إعلامياً بـ(الإسلام السياسي) أو الحركة الإسلامية.

ولعل أحد هذه الوجوه السياسية هو مُحدّدات السياسة الشرعية والفتاوى المنبثقة منها، تُقاس بعقيدة (الفرقة الناجية)، ومفهوم (جماعة المسلمين)، ورؤية (الحزب الأوحد)، فعندئذٍ تُصبح مصلحة الفرقة والجماعة والحزب هي مصلحة الإسلام والأمة والوطن، وفي الحال الفلسطينية تُصبح مصلحة الفرقة والجماعة والحزب مصلحة الحزب، ومُحدّدات العلاقة بالآخرين هي القُرب أو البُعد عن الحزب لا عن فلسطين.

أما الصواب في ذلك فهو أنْ تُقام العلاقات بالآخرين على أساس خدمة مشروع تحرير فلسطين، خصوصاً بعد تمايز المحورين المقاوم والمساوم، وتمايز الحلفين: القدس وأورشليم، وأنْ توظف الفتاوى في ذلك.

وفتوى هؤلاء العلماء كشفت عن أزمة فكرية، أحد وجوهها توظيف الدين وتطويع النصوص لتنسجم وأهداف سياسية معينة، أو لتبرير واقع سياسي محدد، أو لتسويغ موقف سياسي ما، وهذا يُخالف الأصل في العلاقة بين النص والواقع، فيجعل الواقع السيّئ حاكماً للنص ويجعل المصلحة مُفسّرة للنص، بدلاً من أنْ يكون النص حكماً للواقع السيئ ومُغيرّاً له.

إن هذه المنهجية التبريرية المحكومة بالمصلحة السياسية أنتجت تراثاً فقهياً في السياسة الشرعية حل مكان النص، فأصبح يساويه في القداسة، وربما يزيد عليه، وهذا واضح في استحضار فتاوى الإمام أحمد بن تيمية، وترك النصوص الدينية الأصلية كمثال.

ومن ثمرات هذا المنهج المُرّة، على سبيل المثال: شرعنة إمارة الحاكم المتغلّب، واستبدال إرادة الأمة بإرادة أهل الحل والعقد، وتحريف الشورى لتكون مُعلمة غير مُلزمة للحاكم، والخلط بين نقد الحاكم والخروج عليه بالسلاح، والمزج بين طاعة أولي الأمر منكم وعليكم.

وكيلا تكون الفتوى خارج السياق يجب أنْ تكون محكومة بالإسلام: نصاً وروحاً، نصاً كما يُفهم من القرآن والسُنّة، وروحاً كما يُفهم من مقاصد الشريعة الإسلامية ويجب أنْ تكون محكومة:

–       بفلسطين قضية ومشروعاً، قضية مركزية للأمة، ومشروعاً لتحرير فلسطين والأمة،

–       وبالأمة مصلحة ورسالة، مصلحة الأمة الإسلامية، ورسالتها الإنسانية إلى البشرية.. وعندما يتحقق ذلك في الفتوى يصلُح حال علماء الأمة وشعوبها وحكامها، وتضع أقدامها على بداية الطريق الصحيح.. طريق التحرير والنهضة والاستقلال.

* المصدر :الميادين نت

* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع