سنّة لبنان والسوسيولوجيا المحلية
سيتبيّن أيّهما يتقدم في الاهتمام لدى السياسيين في لبنان، ثروته الطبيعية أم ثرواتهم السلطوية؟
السياسية – رصد
ينشغل لبنان بتجديد سلطاته الدستورية في البرلمان والحكومة وبعدهما رئاسة الجمهورية في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. بالطبع ليس لعملية التجديد هذه والانشغال بها مبرّر لاقتناص العدو الإسرائيلي الفرصة للاعتداء على ثرواتنا البحرية ببدء استخراج الغاز الطبيعي من حقل كاريش، بعدما دخلت السفينة الأوروبية إنرجي باور متجاوزة الخط 29 لتصبح على بعد 5 كيلومترات من الخط 23 في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، بحيث سيتبيّن أيّهما يتقدم في الاهتمام لدى السياسيين في لبنان، ثروته الطبيعية أم ثرواتهم السلطوية التي يخوضون معاركها اليوم؟ الأيام المقبلة كفيلة بحسم الأمر.
في ما خصّ مشهد الاستحقاقات، ثبت بنتائج الانتخابات البرلمانية، مادياً ومعنوياً، غياب القوة السنية الفاعلة عن المشهد، من دون إغفال بعضٍ من حضور متواضع لقوى وشخصيات سنية متفرقة ومشتّتة، وإن كان نواب حلفاء المقاومة هم الأكثر عدداً، حيث بلغ العدد الفعلي لهم ثمانية نواب يشكلون ما يُعرف باللقاء التشاوري.
في جلسة انتخاب رئيس البرلمان ونائبه وهيئة مكتب المجلس، ظهر ذلك بوضوح، بغياب كتلة المستقبل التي ورثها الابن سعد عن والده رفيق الحريري، بحضور متواصل منذ انتخابات ما بعد اتفاق الطائف في العام 1992، وكانت من يومها تشكل كتلة وازنة ذات ثقل في المعادلة السياسية، تضاف إليها شخصيات وازنة من الطائفة.
وغداً، عشية الاستشارات النيابية الملزمة لاختيار رئيس سنّي يتولى تشكيل الحكومة العتيدة، سيفتقد القصر الرئاسي الجمهوري هذا الحضور، ما سيصعّب الحسابات ويترك هامشاً هشّاً سببه خلل في التمثيل السنّي لم تتسبّب فيه الانتخابات النيابية فحسب، بل أيضاً انسحاب الحريرية من المشهد السياسي العام بقرار من الخارج.
غاب “المستقبل”، وتفرّق عشّاقه، ومَن خالف وعصى قرار الانكفاء كان سقوطه في الانتخابات مدوّياً، لم تنفع معه محاولات سفير المملكة السعودية تعويض ما فات. ويأتي الرئيس فؤاد السنيورة في رأس القائمة. والرئيس نجيب ميقاتي أصابه ما أصاب الحريرية في انكفائه عن الترشح، وفي فشله في فوز اللائحة التي دعمها طرابلسياً، رغم دعواته خلف مفتي الجمهورية الناخبين إلى الاقتراع الكثيف، ونادي رؤساء الحكومات السابقين تفرق عشّاقه حين انفخت دف الحريري سعودياً. “والسوبرمانان” النائب فؤاد المخزومي بيروتياً واللواء أشرف ريفي طرابلسياً، اللذان قدّما نفسيهما حبل نجاة المدينتين الأكبر سنياً، من “سيطرة حزب الله”، خرجا من المعركة يتيمين مكسوري الجوانح، الأول بحصوله على حاصلٍ يتيم، والثاني بعدما جنح جناحاه المكملان لحواصله الثلاثة، إيلي خوري الماروني تحت جنح رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، والثاني النائب جميل عبود الأرثوذكسي وجد ضالته ونعمته لدى مشروع وطن الإنسان للنائب نعمة افرام.
جميع الطوائف خاضت انتخاباتها بقوى متماسكة، المسيحيون بمردتهم وقواتهم وكتائبهم، والشيعة بثنائيتهما أمل وحزب الله، والدروز باشتراكييهم وأرسلانييهم ووهابييهم، باستثناء السنّة حيث تشتّتت اللوائح وتشتّت المرشحون وتشتّتت الساحة.
قبل الحرب 1975 – 1990 طغى على البرلمان تمثيل متنوّع حزبي وإقطاعي سياسي وعائلي. في خلال الحرب برزت أحزاب وميليشيات تابعة لها قسا عودها، أتى اتفاق الطائف لينقل الميليشيات المتحاربة إلى قلب الدولة، فتمثل أمراء الأحزاب والميليشيات، أو ما يُستحب تسميتهم أمراء الحرب، في البرلمان والحكومة، ونقلوا ميليشياتهم ومحازبيهم إلى الإدارة العامة، ليصبح الصراع مدنياً لا عسكرياً، ولتتحوّل الوزارات إلى أدوات لمعاركهم بدل البندقية والمدفع… هذا يحتجز مرسوماً من هنا، ذاك يرد عليه بقرار من هناك… عمّت المحاصصة وارتسمت خطوط تماس في تقاسم الوزارات والوظائف وسواها، ورغم انكفاء بعض القوى في بعض السنوات لأسباب خارجية، إلا أنه بعد العام 2005 تساوى الجميع في التعبئة الجماهيرية والعصبية فاكتمل المشهد.
وحدهم السنّة لم تكن لديهم العصبية الكافية لتجمعهم أو الميليشيا التي تقاتل باسمهم وعلى اسمهم، باستثناء ما أنشأه المرابطون واتحاد قوى الشعب العامل اللذين ضمر حضورهم بضمور حضور الناصرية في لبنان. وحده الرئيس رفيق الحريري المدعوم سعودياً والمرضى عنه سورياً في حينه، استطاع بمجيئه إلى لبنان عام 1992 أن يشكّل للسنّة عصباً يجمعهم، مبنيّاً على سلطة انتُزعت بالدستور وبالممارسة التي أضفاها الرجل نظراً إلى علاقاته الدولية وإمكاناته المادية والمساعدات التربوية والمادية التي أغدق بها على شرائح واسعة ممن يتكوّن منهم المجتمع اللبناني، وفي مقدمهم الشريحة السنية، فاستقطب النخب منها ومن كل الطوائف لتولّي المناصب الاستشارية والوظيفية الرفيعة، مع سخاء مالي أشبه باللامحدود. ولأنه شخصية تعي تماماً دور الأحزاب والأدوات العسكرية التي تتبع لها وتبني من خلالها قوة ورهبة كبيرتين، حاول الاستعاضة عن افتقاده ذلك بالاستثمار في مؤسسة قوى الأمن الداخلي، ومدّها بكل ما يلزم من تجهيز لتكون طيّعة في يده، مقابل الجيش الذي كان العماد إميل لحود قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية يعيد توحيد ألويتة وتجهيزه.
حتى التيار الوطني الحر المولود أواخر سنيّ الحرب تراه متمسكاً بولادته من رحم الجيش اللبناني، ومتسلحاً بإطلالة رئيسه العماد ميشال عون إلى الحياة السياسية بمعمودية المؤسّسة العسكرية، لما يوفره له ذلك من نوع من العضد والتماسك وشد العصب.
كل انتخابات عصر الطائف، خصوصاً النيابية، خاضتها الأحزاب والقوى بماكينات انتخابية أدواتها هي نفسها تقريباً ماكيناتها الحزبية، الإدارية والعسكرية، ونجحت في ذلك باستمراريتها، تستند في ما تستند إليه إلى عاملَي الانتماء والالتزام، وإن فقد بعض الأحزاب والتنظيمات حضوره، بفقدان الزعيم، والكثير من القوة، وأصاب بعضها الوهن.
وتيار المستقبل الذي حاول التجذّر في بيئته السنّية، رغم كل محاولات التعويض عمّا فاته من بنيان الأحزاب، وإن نجح نسبياً، مستمداً من الإمساك بالسلطة والنفوذ جرعات منعشة، إلا أن ما بين الانتماء والمنفعة مساحة ليس من السهل ملؤها، وقد تحتاج حفراً في الصخر، أما الأدوات العسكرية التي حاول البناء عليها، فتبقى في النهاية مؤسسة عسكرية لبنانية مستمرة بفعل قيام الدولة، لا بقيام الزعامات التي قد يُسحب البساط من تحت أقدامها في أي وقت.
هو الانتماء وهو الالتزام وهي القوة العسكرية، وهي قوة الزعيم وحضوره ما يبقي الحضور حياً ويتفوّق على الإغراء الذي يعود ويتفوّق على نفسه إذا وجد إغراءً وإغداقاً أكبر، هكذا تقول السوسيولوجيا اللبنانية – المحلية، التي يتفوّق فيها عامل القوة، وهكذا تقول الاستراتيجية الدولية التي يتفوّق فيها عامل الاستثمار خدمة للمصالح الخارجية.
* المصدر :الميادين نت – ريما فرح
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع