انقلاب السودان.. هل يربح المدنيون الجولة أم أن قطار العسكر انطلق ولا سبيل لإيقافه؟
السياسية:
في ظل استمرار التظاهرات الرافضة لقرارات قادة الجيش في السودان برئاسة عبد الفتاح البرهان، ووجود وساطات تقودها الأمم المتحدة بينه وبين عبد الله حمدوك، هل يمكن أن يربح المدنيون الجولة أم أن كفة العسكر تبدو أرجح؟
كان السودانيون والعالم قد استيقظوا، الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، على حملة اعتقالات، شملت رئيس الوزراء المقال حمدوك وعدداً من وزرائه ومستشاريه وقادة قوى “إعلان الحرية والتغيير”، المكون المدني في السلطة الانتقالية في البلاد، ثم ألقى البرهان بياناً في اليوم نفسه، أعلن خلاله جملة قرارات أنهت عملياً الشراكة بين العسكر والمدنيين في البلاد.
قرر البرهان إقالة حكومة حمدوك ومديري الولايات في السودان، كما حل مجلس السيادة، وألغى قرار حل المجلس العسكري، وجمد عدداً من مواد الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، بمثابة دستور للفترة الانتقالية في البلاد، وانفرد البرهان وزملاؤه في المجلس العسكري بالسلطة في البلاد.
ومنذ ذلك الوقت خرجت مظاهرات حاشدة في أنحاء البلاد، رفضاً لما وصفوه بالانقلاب العسكري، بينما نددت أغلب الدول الغربية بما حدث، وسط إحجام قوى إقليمية كمصر والسعودية والإمارات، إضافة إلى روسيا، عن تسمية ما حدث بالانقلاب العسكري، فيما يراه محللون دعماً ضمنياً للبرهان ورفاقه.
ماذا حدث خلال أسبوع ساخن في السودان؟
كان كثير من المواطنين السودانيين يراهنون على نجاح العملية الانتقالية، وكانوا يأملون في أن ينجح التحالف العسكري المدني في بناء إطار ديمقراطي يضع حداً لعقود من الاضطهاد والديكتاتورية.
وكان المعسكر المؤيد للديمقراطية ينتظر اللحظةَ التي يتولى فيها الجناح المدني لهذا التحالف قيادة مجلس السيادة، وفقاً للوثيقة الدستورية، بعد انتهاء فترة 21 شهراً من الحكم العسكري، والتأجيل إلى يوليو/تموز من العام المقبل. لكن قرارات البرهان، الذي قاد المجلس منذ إنشائه، أنهت ذلك التصور عملياً، وبات نقل السلطة إلى المدنيين رهناً بما قد تنتهي إليه الجولة الحالية بين المعسكرين المدني والعسكري، بحسب محللين.
فوفقاً للوثيقة الدستورية، التي جمد البرهان عدداً من بنودها بهدف فك الشراكة مع إعلان “قوى الحرية والتغيير”، كان المفترض أن يقود الجيش مجلسَ السيادة لمدة 12 شهراً فحسب، وبعد ذلك يتولى المدنيون القيادة لمدة 18 شهراً (وهي فترة كان يُفترض أن تبدأ في مايو/أيار، ثم تأجلت حتى يوليو/تموز 2022). ويتبع هذه الفترة انتخابات عامة تمهِّد الطريق لانتقال دائم وديمقراطي وسلمي للسلطة بحلول عام 2024.
ولجأ الرافضون لقرارات البرهان إلى الشارع منذ صباح الإثنين وشهدت الخرطوم العاصمة وأغلب مدن البلاد، أمس السبت، مظاهرات حاشدة رفعت شعارات “الشعب يريد إسقاط البرهان” و “لا عودة للوراء”، في إشارة إلى الإصرار على رفض الانقلاب وانفراد معسكر الجيش بالسلطة.
واليوم الأحد 31 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت لجنة أطباء السودان (مستقلة) ارتفاع عدد القتلى في صفوف المحتجين على إجراءات البرهان إلى 11 قتيلاً، بعد وفاة أحد المتظاهرين الأحد متأثراً بجراحه.
وقالت اللجنة في بيان الأحد، نقلته وكالة الأناضول: “ارتقت روح الثائر مروان جمال صباح اليوم بالمستشفى، متأثراً بإصابة غادرة في الرأس في أحداث مدينة بحري (شرق)، ليلة 28 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بواسطة قوات الانقلابيين بعد يوم من المعاناة في غرفة العناية المكثفة”.
وأضافت: “بارتقاء الشهيد مروان وصعود ثلاثة أرواح طاهرة (في مظاهرات السبت) يرتفع عدد شهداء مجازر الانقلابيين وسط الثوار منذ يوم الانقلاب، في 25 أكتوبر/تشرين الأول، إلى 11 شهيداً، وفقاً لتأكيدات مصادرنا”.
وكانت اللجنة ذاتها قد أعلنت، السبت، مقتل 3 متظاهرين “برصاص المجلس العسكري” في مدينة أم درمان، غربي العاصمة الخرطوم، فيما أصيب نحو 110 آخرين في عدة مدن، بعضهم بالرصاص الحي، وذلك في مظاهرات عرفت بـ”مليونية 30 أكتوبر”.
وبشكل عام، يعيش السودان حالة أقرب للعصيان المدني والإضراب العام طوال الأسبوع، أي منذ الإثنين، رغم إغلاق الجيش وقوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب البرهان (في مجلس السيادة المنحل والمجلس العسكري العائد لتولي مقاليد الأمور منذ الإثنين)، الشوارع الرئيسية في العاصمة والمداخل المؤدية إليها من باقي أنحاء البلاد.
ما وضع حمدوك الآن؟
على المستوى السياسي، لا يزال رئيس الحكومة المقال حمدوك قيد الإقامة الجبرية، رغم عودته وزوجته إلى مقر إقامتهما في الخرطوم، منذ الثلاثاء الماضي. واليوم أكد فولكر بيرتس، الممثل الخاص للأمين العام بالسودان، أن حمدوك لا يزال قيد الإقامة الجبرية، مضيفاً أنه بحث مع رئيس الوزراء المقال في مكان إقامته خيارات الوساطة.
وقال بيرتس، في تغريدة على تويتر إنه التقى حمدوك في مكان إقامته، إذ لا يزال قيد الإقامة الجبرية، مضيفاً “ناقشنا خيارات الوساطة وسبل الخروج من الأزمة في السودان. سأواصل الجهود مع الأطراف السودانية المعنية الأخرى”، وأكد بيرتس في التغريدة أن حالة حمدوك جيدة.
وكان أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد طالب، الخميس، الجيش السوداني، بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين ومنح حمدوك “حريته كاملة”.
ورغم قطع خدمات الإنترنت بشكل كامل تقريباً عن العاصمة الخرطوم، خصوصاً أمس السبت، فإن أحداث السودان تحظى بتغطية واسعة سواء في الإعلام الإقليمي أو الدولي، وسط مواقف متباينة من قرارات البرهان وتصاعد حدة الرفض لتلك القرارات بصورة لافتة، ولا يكاد يخلو تقرير إخباري عن تلك الأحداث من اسم حمدوك، الذي تحول إلى رمز للانتقال للحكم المدني في السودان، وربطت غالبية دول أوروبا بين عودته لمنصبه وبين التعامل مع البلاد.
مجلة The Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً بعنوان “لم يفت الأوان بعد لهزيمة الانقلاب في السودان”، رصدت فيه المواقف الإقليمية والدولية مما يجري في السودان، وقدمت مطالب لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بضرورة التدخل لإعادة المدنيين إلى السلطة في السودان.
ما احتمالات انتصار المدنيين هذه المرة؟
وسط هذه الأجواء المشتعلة، يوجد عدد من العوامل يصب في صالح المعسكر الرافض لانقلاب البرهان، ويرجح كفة المدنيين في الانتصار في هذه الجولة من المناكفات المستمرة بينهم وبين القادة العسكريين منذ اندلاع الثورة ضد حكم الرئيس المعزول عمر البشير، في ديسمبر/كانون الأول 2018.
وبحسب تقرير فورين بوليسي، تُمثل الرسائل القوية والواضحة من المجتمع الدولي برفض الانقلاب عنصراً هاماً في ترجيح كفة معسكر المدنيين. وكان جيفري فيلتمان، المبعوث الأمريكي الخاص لشؤون منطقة القرن الإفريقي، قد غادر السودان قبل ساعات من بدء الانقلاب، وبحسب ما أوردته تقارير، فقد حذَّر فيلتمان الجيش من الاستيلاء على السلطة. ورداً على الانقلاب، جمَّدت الولايات المتحدة مساعدات بمبلغ 700 مليون دولار كانت قد وعدت بها لدعم التحول الديمقراطي.
أما العنصر الثاني فهو التشابه اللافت بين أحداث هذا الأسبوع في السودان مع ما حدث أيضاً عند الثورة على البشير، فمعارضو الحكم العسكري لن يهدأوا في مواجهة الانقلاب الأخير. وقد سبق أن وقف المتظاهرون في وجه البشير لعدة أشهر قبل سقوطه. والعنصر الثالث هنا هو أن الجيش السوداني يفتقر إلى الشعبية واسعة النطاق التي يتمتع بها نظيره في مصر، بحسب المجلة الأمريكية.
أما العنصر الآخر فهو إدراك الشعب السوداني أن الانقلابات لا تجيء بالديمقراطية. ولم يكن مفاجئاً خروج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع منذ اللحظات الأولى للانقلاب العسكري. وقد دعت قوى المعارضة إلى إضراب على مستوى البلاد، لعلها تعيد حملة العصيان المدني الناجحة في يونيو/حزيران 2019 والتي أجبرت الجيش على تقاسم السلطة مع المدنيين.
ماذا يمتلك العسكر من أوراق؟
الرافضون لما حدث يرون الانقلاب وحملة الاعتقالات للسياسيين المدنيين عقبة في طريق مواصلة السودان لرحلته نحو هيكل أكثر تعددية وتمثيلية للحكم في البلاد، لكنَّ البرهان والداعمين له يقولون إن القرارات تصحيح لمسار الثورة ويلقون باللوم على المكون المدني في السلطة الانتقالية.
وعلى الرغم من استمرار الاحتجاجات والبيانات والإجراءات التي اتخذتها واشنطن ودول أوروبية، كتجميد المساعدات، فإن هذا لا يعني أن وجود مخرج يقود إلى تراجع البرهان عن قراراته سيكون سهلاً، خصوصاً في ظل البأس الصارم الذي أبداه الجيش والدعم الذي تلقاه من القوى الإقليمية التي قاومت مراراً موجات التحول الديمقراطي في العالم العربي خوفاً من انتقالها إليها، بحسب وصف فورين بوليسي.
وبحسب المجلة الأمريكية، تلقى البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو، على مدى الفترة الماضية منذ عزل البشير، دعماً مفتوحاً من أنظمة الحكم القوية في المنطقة. وعلى رأس هؤلاء، يأتي النظام المصري، إضافة إلى تلقى الجيش السوداني دعماً سخياً من الملكيات الغنية بالنفط في السعودية والإمارات، وكلاهما له باع في دعم الثورات المضادة بعد الموجة الأولى من انتفاضات ما يُعرف بالربيع العربي في عام 2011. وقد ازدادت جرأة الجيش بعد اعتماد هاتين القوتين الإقليميتين على دقلو في تجنيد ميليشيات الجنجويد للقتال في حربهما في اليمن وليبيا.
ولم يتوقف القادة العسكريون في السودان عن إثارة سلسلة لا تنقطع من الأزمات لتجنب التنازل عن الحكم للمدنيين، إلا أن كثيراً من الأصوات المحلية والدولية ظلت متفائلة بحذرٍ وعقدت رجاءها على إحجام الجنرالات عن انتزاع السلطة، لما يحمله الماضي من دروس مؤلمة لتولي العسكريين الحكم. لكن الجنرالات أبوا إلا التمسك بسيرتهم القديمة وأطلقوا انقلاباً عسكرياً آخر، يستدعي إلى الذاكرة الانقلابات العسكرية التي لطالما زعزعت استقرار البلاد منذ الخمسينيات.
وعمدت القوى الإقليمية الثرية، لا سيما دول الخليج، إلى ضخ الدعم الدبلوماسي والمالي للمجلس العسكري السوداني، لتخفيف الضغط الاقتصادي ورهن البلاد بفلك تلك الدول الاقتصادي والسياسي.
ويتسق هذا مع أحداث وقعت في أماكن أخرى من الشرق الأوسط؛ إذ يركب الجنرالات العسكريون موجة الثورة الشعبية بعد أن يدركوا عجزهم عن قمعها، ثم يُشاركون في إسقاط الرئيس الديكتاتوري ويقدمون أنفسهم على أنهم حماة الديمقراطية وأبطالها، وبمجرد أن تبدأ الفترة الانتقالية التالية، لا يألون جهداً لإثارة الأزمات التي تولد خيبة أمل شعبية في خارطة الطريق الانتقالية، وبالطبع في نهاية الأمر، يمتنعون عن نقل السلطة إلى المدنيين بذريعة السخط الشعبي.
ومنذ يوليو/تموز الماضي، قفز التضخم في السودان إلى أحد أعلى مستوياته في العالم، متجاوزاً نسبة 400% بعد قرار البنك المركزي السوداني بتخفيض قيمة العملة المحلية رضوخاً للمانحين الأجانب وصندوق النقد الدولي. وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحادة، تراجعت شعبية القادة المدنيين، ما سهَّل على الجيش انتزاع السلطة تحت ستار استعادة الاستقرار والازدهار. ولا شك في أن هذه الآمال تستند إلى وعود بدعم مالي سخي من السعودية والإمارات.
فبعد وقت قصير من إزاحة البشير في أبريل/نيسان 2019، تعهدت السعودية والإمارات بتقديم قروض ومساعدات تُقدر بنحو 3 مليارات دولار للنظام العسكري. والجدير بالذكر أن هذه التعهدات كانت قبل موافقة الجيش على تقاسم السلطة مع المدنيين خلال الفترة الانتقالية. وفي الأسابيع المقبلة، قد تبدأ هذه المساعدات بالتدفق مرة أخرى في حال انتصر الانقلاب.
وفي الختام، يزعم تحليل المجلة الأمريكية أن الانقلاب في السودان لا يزال في حالة هشة، فهو يفتقر إلى الدعم الإقليمي واسع النطاق، ناهيك بالدعم الداخلي. وقد شجب عديدٌ من السفراء السودانيين في الخارج الانقلاب. وإن كان قادة الانقلاب يراهنون على تراجع الدعم للاحتجاجات بمرور الوقت، لكن هناك عدة عوامل تنازعهم المضي قدماً في هذا الطريق.
عربي بوست