قاسم عز الدين*

الوصفة الأميركية – الدولية لما يُسمّى “الانتقال إلى الديمقراطية” تتكشّف في تونس وليبيا والسودان، وفي كلِّ مكان، في أنَّها نموذج لتدمير الدولة والمجتمع في إيكال الخراب إلى سلطة معدّة مما يُسمى المجتمع الدولي “بقيَم”، ومنظّمة بمؤسسات الدستور والحكومة والبرلمان… الفاسدة، لحماية آليات الانهيار ومنحها في الظاهر شكلاً ديمقراطياً.

هذه المؤسَّسات التي لا تزال تحافظ على مسمّيات شكلية كانت تعبّر عن الحكم الديمقراطي قبل التحولات الدولية النيوليبرالية، تُقام في بلدان “الديمقراطية الناشئة” على أسس ومفاهيم قولبتها وصاغتها سلفاً مؤسسات “المجتمع الدولي” وفق النموذج الأميركي، بهدف تنافس أطراف السلطات السياسية والمالية في ما بينها على حظوة ما تسميه “تداول السلطة”.

وليس من باب المصادفة أن تؤدي وصفة “الانتقال” إلى احتراب السلطات الجديدة في تونس والسودان وليبيا… على تدمير الدولة والمجتمع من أجل تقاسم مغانم الفساد في التجارة والخصخصة و”الاستثمار” لنهب الثروات العامة، مقابل خدماتها في إدارة تشريع سياسات النهب والتبعية تحت إشراف ووصاية دول “المجتمع الدولي” لمصلحة نظام الشركات المتعددة الجنسية في غابة التوحّش.

تونس سبّاقة في المواجهَة
لا يجد مدّاحو وصفة الخراب في تونس لتعظيم ما يسمونه “الإنجازات الديمقراطية” بالمقارنة مع نظام ابن علي، سوى تحقيق بعض الحريات في التعبير والإعلام و”قيَم حقوق الإنسان” المقولبَة سلفاً، لكن بالمقارنة مع تضحيات الفئات الشعبية التي استثمرتها سلطة “الترويكا” وما بعدها، يتَّضح أنَّ حصيلة ما بات يُعرف “بالعشرية السوداء” في تونس هي استمرارية سيئة لنظام ابن علي في السياسة الخارجية والقضاء على الحقوق الإنسانية للناس والمجتمع.

دستور العام 2014 المبني على “القيَم” الدولية الرائجة، حرصت “قيَمه”، وخصوصاً “قيمَة الحريات المالية”، على تدمير هياكل الدولة وتنصيب محازبي أطراف السلطة محلّها، عبر توزيع الدولة وإداراتها العمومية محاصصة بمشاركة العائلات المالية القديمة التي ازدهرت أعمالها الطفيلية في المرحلة الانتقالية.

حكومات السلطات الجديدة المتعاقبة منذ العام 2011 بزّت حكومات ابن علي وتفوّقت عليها بتعميم الفساد ونهب الثروات العمومية، إذ وسّعت أعمال العائلات المالية السابقة في تطعيمها بعصابات زبائنية من الذئاب الجديدة المتعطّشة إلى المال السريع في ترويج التهريب وسلع السوق السوداء والتجارة بدماء البشر.

تسيّب الدولة برعاية مجالس النواب المنكبّة على تعزيز الزبائنية أثار احتجاجات شعبية مستمرّة قبل تحرّك الرئيس سعيّد، وأحدث غضباً واسعاً أدّى إلى كشف بعض عمليات النصب في قروض الاحتيال من المصارف التي تقدّر بحوالى 10 مليار دولار، وإلى كشف سرقات ممنهجة لثروة الفوسفات والحوض المنجمي وعقارات الدولة… فوصلت الفضائح إلى الإجرام بتهديد حياة الناس بجائحة كورونا والقمح الفاسد المستورَد للزراعة، وهو غيض من فيض.

مسار آخر ممكن بمشروع سياسي بديل
الغضب العارم الَّذي حمل الرئيس قيس سعيّد إلى تعليق الدستور وحلّ الحكومة ومجلس النواب بتدابير استثنائية، كشف انهيار الطبقة السياسية وأحزاب السلطة ومؤسساتها، وبيّن التأييد الملحوظ في استطلاعات الرأي لوقف مسار الفساد والنهب وتغيير سياسات منظومة الحكم في تبعيتها لصندوق النقد والبنك الدولي ومؤسَّسات “الدول المانحة” التي دفعت 4 ملايين شخص جدد إلى تحت خطِّ الفقر.

لكنَّ الرئيس الخبير بالفقه الدستوري يعتنق فلسفة فكرية لتغيير الديمقراطية التمثيلية إلى ديمقراطية مباشرة من تحت، ويعتقد أنَّ مشاركة الناس بالقرار السياسي في مجالسها المحلّية من شأنه قطع الطريق على تغوّل السلطة في تبديد الحقوق لمصلحة الطبقة السياسية والمالية، ولعلّه يستسيغ مقولة شارل ديغول “أنا فرنسا”، في إشارة إلى رفض الوسيط بين الرئيس والشعب الذي يعبّر عن إرادته في الاستفتاء الشعبي، غير أنّ المراهنة على هذه الفلسفة في تغيير مسار انهيار الدول والمجتمعات، ربما تتغاضى عن واقع تكريس ثقافة الانهيار السائدة في المنظومة الدولية والدول التابعة التي أدّت إلى عولمة “الوصفة” في تربية أجيال من النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية منذ ثمانينيات القرن الماضي على اعتناق أيديولوجية “القيَم الديمقراطية” الأميركية – الدولية، إلى درجة أن الكثير من المعادين للهيمنة الإمبريالية في تونس وغيرها يتبنّون “مبادئ” الوصفة السحرية “ضد الاستبداد”.

فضلاً عن ذلك، قد لا تؤدي العودة المباشرة للشعب إلى القدرة على تحقيق ما يصبو إليه من الحقوق الإنسانية في العمل والمأوى والتعليم والطبابة والغذاء… ومن الحقوق الوطنية والسياسية بدلاً من استراتيجية الإلحاق بالتبعية، فتصحيح سياسات “العشرية السوداء” لا يؤدي بالضرورة إلى قلب واقع الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أحدثته ثقافة المنظمات الدولية وسياساتها طوال عقود، ولا يؤدي إلى وقف مشاريع التخريب وإغراق الدول والمجتمعات بالأزمات المستعصية والديون والعجز من أجل تعبيد الطريق أمام تدخّلها المباشر بذريعة “الإنقاذ” في حكومة “الكفاءات” واستجداء رساميلها في الاستثمار.

تونس السبّاقة في معارك الحرّية والتحرّر تخوض معركة مفصلية لتفكيك مسار الخراب والانهيار. وقد يؤدي اختصار المعركة إلى غمارها القانونيّ والفلسفيّ، إلى تغليب موازين القوى لمصلحة القوى المحلية المستفيدة من غنائم السلطة والمستفيدة من عقيدة “الرأسمال الرمزي” في وصفة “القيَم” الديمقراطية المعلّبة. كل هذه القوى المحلية محميّة ومدعومة بترسانة من الدول والمؤسسات الجاهزة لاستخدام أسلحتها الثقيلة “في الدفاع عن مقدّسات المؤسسات الشرعية الديمقراطية”.

في المقابل، تروم القوى والتيارات الوطنية والشعبية المشاركة في إرساء مشروع سياسي لتفكيك سياسات الخراب وبناء سياسات بديلة. ولا ريب في أنّ مشاركة الاتحاد التونسي للشغل والمنظّمات الوطنية والنقابية الأخرى، وكذلك المجالس المحلية البالغة 265 معتمدية، هي مدماك معركة الانتقال الآمن، فعلى أكتافها تقع مسؤولية اجتراح رؤية تفكيك الانهيار وآلياته، من أجل نهوض الدول والمجتمعات التي ترتقب الدروس التاريخية من نجاح مشروع سياسي بديل في تونس.

* المصدر : الميادين نت
* المادة التحليلية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع