ناصر قويدر*

قبل أيام كانت الذكرى العشرون لأحداث 11 سبتمبرفي نيويورك، عندما إختطفت مجموعة من الإرهابيين الإنتحاريين من تنظيم “القاعدة” طائرتين مدنيتين مملوئتين بالركاب الأبرياء وتحطمهما بتوأم ناطحتي السحاب، مركز تجاري أمريكي، وفقا للرواية الرسمية للسلطات الأمريكية، وكذلك، جرى الحديث عن طائرة مدنية ثالثة هاجمت بناية البنتاغون، غير إن تقارير لاحقة أكدت إنه لم يتم العثور على قطع الطائرة المتفجرة، وباي حال ليس هذا هو المهم.

والأهم في أحداث “أيلول الأسود” الأميركي لا يكمن بتفاصيل الحدث، ومن هو “العميل” المنفذ، سواء تنظيم “القاعدة” الإرهابي أو غيره، أو حتى أذرع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية نفسها، و(بالصدد آراء عديدة ومختلفة)، بقدر ما يجب أن ينصب الإهتمام على الأهمية العالمية للحدث، وعواقبه على الساحة الدولية والعالم . ولا أعتقد أن هناك من يجادل بحقيقة أن “أيلول الأسود” الأمريكي أصبح نقطة إنطلاق أمريكية نحو محاولتها فرض نظام عالمي جديد، نظام أحادييتها بالسيادة العالمية وديكتاتوريتها القائمة على مبدأ القوة، بعد إنتهاء عصر “الثنائية القطبية” بزوال الإتحاد السوفييتي من الوجود.

في عصر “الثتائية القطبية” كانت الآلية التي تحكم العلاقات الدولية تستند إلى مجموعة من إجراءات التوفيق والردع في إطار ما يسمى “القانون الدولي”، وكانت الولايات المتحدة تضطر للتقيد بها في سياستها الخارجية والداخلية، حتى ولوإنها كانت دائما تبحث عن الفرص المناسبة لإهمال هذه القيود بما يتلائم ومصلحتها.

ولكن، بعد زوال الإتحاد السوفييتي كعدو رئيسي لها، وغياب تهديد حقيقي لمصالحها من قبل الصين آنذاك، الذي ترافق مع قفزة نوعية بالتمويل والتكنولوجيا في إطار تخطيط محدد، عزز الثقة لدى الولايات المتحدة بإمكانية فرض ديكتاتوريتها المباشرةعلى العالم، ومحاولتها إستبعاد أي آليات تقليدية للردع في القانون الدولي، الذي جرى تطويره على خلفية نتائج الحرب العالمية الثانية في مؤتمر يالطا، وبالتالي تعزيزه بإتفاقيات نهائية بشأن الأمن والتعاون في أوروبا عرفت باتفاقيات هيلسينسكي لعام 1975. ولقد شكل هذا السبب الأساس ـ الذي يكمن في خبايا تفجيرات ” 11 سبتمبر” في نيويورك، التي جرى تخريجها تحت راية الإسلام الراديكالي.

ولكن لماذا أفغانستان ؟

لقد شكلت أفغانستان بالنسبة لواضعي الإستراتيجية الأمريكية آنذاك، هي المنطقة الجيوسياسية الرمادية الكلاسيكية، التي يسهل فيها صناعة صورة للعدو “الإرهابي” وبالتالي إختلاق المبررات لمواجهة “الإرهاب” الوهمي لتعزيز ديكتاتورية الولايات المتحدة على العالم.

يجب أن لا ننسى أن حركة طالبان التي إنتصرت على الولايات المتحدة والناتو مؤخرا في افغانستان، هي ذات الحركة التي نشأت ونمت برعاية المخابرات الأمريكية والبريطانية. وفي نفس الوقت ساندت الأجهزة المختصة الأمريكية والبريطانية عن سابق إصرار وتخطيط مسبق حركات إسلامية متطرفة أخرى في أفغانستان بهدف خلق علاقة تنافسية. وهذه سياسة قديمة إعتمدها الأنجلو ساكوسونيون في البلدان الإسلامية. غير إن هذه الحركات الإسلامية توحدت توحدت لاحقا، لمواجهة “الكفار”. وعلى سبيل المثال، رفضت حركة طالبان تسليم زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي، أسامه بن لادن، إلى الولايات المتحدة والمتهم بتنفيذ هجمات سبتمبرفي نيويورك. وهذا بحد ذاته شكل مبرر للحملة العسكرية الأمريكية لإحتلال أفغانستان، ومبرر لواشنطن في محاربة”الإرهاب” الذي إتخذ فيما بعد نطاقا أوسع ليشمل عدة بلدان عربية وإسلامية.

ما يستوجب التذكير به، هو أحداث البلقان والحرب الأمريكية ضد يوغوسلافيا في عام 1999 التي إندلعت عشية “أيلول الأسود” الأمريكي 2001 في نيويورك وأفغانستان، بقدر ما لذلك من إرتباط وعلاقة مباشرة بين الحدثين اليوغوسلافي والأفغاني.

لقد شكل غزو الناتو ليوغوسلافيا عام 1999 نذيرا للغزو الأمريكي لأفغانستان. حيث نجحت الولايات المتحدة في يوغوسلافيا بإجراء “إختبار” لآليات الحكم العالمي بما في ذلك إختبار قدرتها على إخضاع الأمم المتحدة وحلف الناتو والمجتمع الدولي لأهدافها السياسية.

لقد كانت الحرب الأمريكية في يوغوسلافيا عبارة عن سيناريو لحروب محلية في بلد تقاطعت فيه ديانات العالم ومصالح القوى العظمى وكافة المتنافسين على اي تأثير كبير. وهناك في البلقان، تضافرت تجارة المخدرات وقنوات الهجرة غير الشرعية والسوق السوداء للأسلحة والأعضاء البشرية ونشاطات البنوك العالمية مع أساليب التغطية الاستخباراتية لهذه الحرب.

لقد غير الغرب عمدا موازين القوى في البلقان لصالح البنى والهيكليات الموجهة نحو الإسلام الراديكالي.وإستخدم الغرب كافة الوسائل لإضعاف الشريحة المسيحية الارثوذكسية التي هي مصدر نفوذ روسيا في البلقان.

في أفغانستان، كمسرح آخر للعمليات، كررت الولايات المتحدة في كثير من النواحي أنماط الحرب في البلقان. وأوقدت الصراع العرقي وجعلت كل مجموعة عرقية ترى مصير أفغانستان بطريقتها الخاصة. وهذا ما خلق الفرص للولايات المتحدة وبريطانيا لممارسة ألعابهما المعتادة في الفضاء الأفغاني. وهنا أوجه التشابه عديدة بين أفغانستان والبلقان: تهريب المخدرات، وخطر تصدير الإرهاب، والسوق السوداء للأسلحة، والهجرة غير المنضبطة، وعرقلة الاتصالات التجارية للمنافسين – كافة هذه الأدوات رأتها واشنطن في عام 2001 وحصلت عليها نتيجة دخول قواتها العسكرية إلى أفغانستان.

لقد وضعت نخبة العولمة الليبرالية المتطرفة آلية الديكتاتورية الناعمة بإستخدام صورة العدو في شكل إسلام راديكالي وإرهابي أنشأه ورعاه الغرب نفسه. وتعمل الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة بإصرار وبإستمرارعلى الترويج لإستراتيجية “نداء الطوارئ” لتقليص كافة الإجراءات الديمقراطية التي طورتها البشرية في عملية الحروب وثورات القرون الثلاثة الماضية.

والآن، بعد تشويه صورة الإسلاموية إلى حد ما، بصفتها العدو الرئيسي لليبرالية الغرب في دعاياته، أفسح المجال في الفضاء الإعلامي الغربي الليبرالي ذاته للإنقضاض على “البعبعين” الجدد ـ روسيا والصين. ويجري تصوير البلدين على أنهما “إمبراطوريات إستبدادية تسعى إلى تقويض مبادئ الديمقراطية العالمية”.

وأعتقد إنني لن أبالغ إذا قلت إن أكثر من 90% من الحديث في وسائل الإعلام العالمية التي تسيطر عليها الأوليغارشية الغربية هذه الأيام، يتحدث عن الحرب في تايوان وأوكرانيا، وتنشر معلومات مضللة تصب في مصلحتها حول إستعدادات سلاح الجو والبحرية لجيش التحرير الشعبي الصيني للإنقضاض على جزيرة تايوان، وإستعدادات الجيش الروسي للإنقضاض على أوكرانيا، على الرغم من أن بكين رسميا أكدت مرارا على أن “الصينيين لا يهاجمون الصينيين” ويعني إن حربهم القادمة مع الأمريكان في تايوان. وموسكو بدورها تعهدت مرارا بأنها لن تكون البادئة في اي حرب كانت.(موضوع منفصل).

لقد حملت السنوات العشرون الماضية بإمتياز عنوانا حول هجمة العولمة العالمية المتطرفة من أجل لتكريس ديكتاتوريتها في عالم أحادي القطب تحت رعاية الولايات المتحدة، من خلال أساليب الإكراه العسكري والسياسي والاقتصادي المباشرللإخضاع. و من أجل تحقيق ذلك، أنشأت تقنيات متطورة لاستخدام الاتصال الجماهيري لهدم الحكومات في البلدان الأخرى (الثورات الملونة). وأصبحت الشركات عبر الوطنية للمعلومات عاملاً من عوامل قوتها السياسية الجبارة.
بطريقة أو بأخرى، نحن نتحدث عن رأس مال دولي كبير يستخدم تقنيات إدارة توجيهية مباشرة. وفطع مسارا طويلا في يوغوسلافيا،أفغانستان، العراق، سوريا، ليبيا ، جائحة كورونا والآن يتم إضافة أجندة المناخ إلى هذا الاتجاه. وإن كافة مساراته تلاقت حول إنجاز فكرة النظام العالمي الجديد بسيادة نخبة العولمة المتطرفة، حيث أصبحت عمليات التلاعب أكثر وقاحة وعلنية، ولم يعد رأس المال العالمي يخفي أهدافه ووسائل تحقيقها.

إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان لا يعني تراجعها عن تحقيق هدف عالم أحادي القطب. ومع ذلك، وبفضل المحاولات الدؤوبة للنخبة العالمية فإن هذا الصراع سيصبح أكثر شراسة، وسوف يشهد العالم مزيدا من الفوضى والكوارث الإنسانية، وحقن دماء مئات الآلاف من الأبرياء. وهذا هو ثمن السلام وفرض مبادئ “الديمقراطية” الأمريكية، وحكام الولايات المتحدة لا يخجلهم الثمن الذي سيدفعه الآخرون، أو حتى الذي سيدفعه الضحايا الأبرياء من الشعب الأمريكي ذاته.

* المصدر : رأي اليوم
* المادة التحليلية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع