السياسية: متابعات : صادق سريع

هي أطول صراع مسلح مستمر في تاريخ الولايات المتحدة.
هي الحرب التي بدأت بلا خطة، وانتهت بكابوس أمريكي سجلته عدسات التصوير ويوميات المؤرخين. 

ففي يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001، تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية لأكبر هجوم “إرهابي” في تاريخها الحديث، بتحويل اتجاه أربع طائرات مدنية، لضرب أهداف في نيويورك وواشنطن.

هجمات 2001 على مركز التجارة العالمي في نيويورك ومقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، والتي راح ضحيتها حوالي ثلاثة آلاف شخص، أعادت دورة التاريخ على نحو أقسى لأنها استهدفت رموز الهيبة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية.

لذلك صنعت واشنطن من هذه الهجمات “شبحاً” يسمى “الإرهاب”.

وقررت مطاردته عبر البحار والمحيطات والحدود الدولية والطبيعية.

انتهى الأمر برجال المارينز الأمريكيين وهم يقومون بغزو أفغانستان ويسقطون حكم طالبان بها، في مطاردات خيالية بين الجبال والوديان المتجهمة.

ثم جاء الغزو الثاني للعراق وإسقاط نظام صدام حسين، ليفتتح الفصل الثاني من المطاردات العبثية الدامية، ويفتت العراق إلى طوائف وميليشيات متحاربة.

وكان صعود تنظيم الدولة الإسلامية ذروة غير منتظرة للحرب الأمريكية على “الإرهاب”.

ثم جاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ثم العراق بمثابة نهاية غير سعيدة للحرب التي شغلت العالم.. وأرهبته.

هكذا بدأت وانتهت الحرب العالمية على ما يُسمى الإرهاب.

وهكذا حان الوقت بعد 20 عاماً من انطلاق اللهب الوحشي لهذه الحرب أن نحصي ما جرى بين أمريكا وخصومها، لا سيما أن معظم فصوله تثقل بلاداً عربية وإسلامية حتى اليوم.

هذا التقرير نشره موقع عربي بوست ،اليوم ، يستعرض الأسباب الأمريكية لخوض هذه الحرب المثيرة للجدل، وآثارها المباشرة على صورة أمريكا ونفوذها بالمنطقة والعالم، كما يعدّد أبرز أخطاء وجرائم الحرب، التي انعكست سلبياً على أعداء أمريكا وأصدقائها. 

هل كانت الحرب على الإرهاب ضرورة؟

اكتسبت أمريكا فور وقوع أحداث 11 سبتمبر/أيلول فيضاً من التعاطف والتضامن من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك من العالم العربي والإسلامي. 

حتى في طهران خرجت مسيرات تضامن مع ضحايا الهجمات.

لكن واشنطن كانت في حاجة لمثل هذا الاعتداء لتحقيق مكاسب جيواستراتيجية تحت شعار الحرب على الإرهاب.

كما كانت القاعدة أيضاً في حاجة لعملية نيويورك الدامية.

في 1999 كتب أيمن الظواهري، الذي يقود تنظيم القاعدة حالياً، لمساعديه باليمن بأن شن هجوم على أميركا هو السبيل الوحيد لإنعاش حركة إسلامية كانت “في مرحلة الاحتضار”.

وأوضح الظواهري آنذاك أنه إذا تعرضت أمريكا لهجوم في أراضيها، فإنها لن تهاجم بغضب “المتشددين الإسلاميين” فقط، بل الدول الإسلامية كذلك، وسيسمح هذا للإسلاميين بتصوير أنفسهم على أنهم مدافعون عن الأمة أو المجتمع الإسلامي، واكتساب المزيد من الأتباع.

نجحت استراتيجية الظواهري، فقفز عدد أعضاء القاعدة، الذي كان بالكاد يبلغ ألف مقاتل في عام 2001، إلى ما بين 100 ألف و230 ألف ناشط في عشرات البلدان بجميع أنحاء العالم، خلال حرب الغرب على “الإرهاب”.

الحرب قد تأتي من أولويات انتخابية ومخططات قديمة

كانت الحرب على الإرهاب اختيارية وليست ضرورة، وكلفت كثيراً من الدم والمال.

إن البحث عن حرب يكون الانتصار فيها سهلاً هو في الحقيقة ليس أكثر من حملة انتخابية، وقد تنجح الحملة هذه فقط في انتخاب أو إعادة انتخاب المحافظين الجدد قادة للولايات المتحدة.

وعندما نشرت واشنطن جنودها في أنحاء المعمورة بدعوى ملاحقة الإرهابيين، كانت تستثمر خوف الأمريكيين وغضبهم من العملية التي ضربت الإحساس بالأمان لديهم.

وروَّجت لخطاب ثأري ضد الحركات الإسلامية وخاصة حركة طالبان، ثم بقية الأعداء الذين تصنعهم دوائر المخابرات المركزية، مستحضرة خطاب نشر الديمقراطية والحرية للشعوب والمجتمعات.

واستغلت واشنطن حالة الرهاب في العالم بعد الحادثة من أجل تمرير مخططاتها خاصة في منطقة الشرق الأوسط وأنحاء العالم.

وفرضت ذلك حتى على أوروبا باعتبارها القطب الأوحد في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

وقد تتحول إلى حرب تحرير ومقاومة شعبية

استهلت الولايات المتحدة حربها على ما تسميه الإرهاب بغزو أفغانستان في 2001 بذريعة إيواء حركة طالبان الحاكمة آنذاك زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.

أطاح الغزو بحكومة طالبان وتم تنصيب حكومة موالية لواشنطن برئاسة حامد كرزاي.

ثم كان الغزو الثاني للعراق مطلع 2003، وهذه المرة جاء في إطار ما عرف بالحرب الوقائية بزعم وجود أسلحة دمار شامل. وقد كشفت الوقائع بعد ذلك زيف هذه التبريرات.

الحملة الأمريكية على أفغانستان والعراق تزامنت مع حملة أخرى غير مسبوقة ضد قياديي القاعدة والتنظيمات المتحالفة معها في جميع أنحاء العالم.

ثم تحولت الحرب على الإرهاب من معركة سهلة مدعومة بالإغواء الإعلامي والجماهيري والانتخابي، إلى حرب لا أخلاقية على الشعوب، وعلى أفراد عاديين لا علاقة لهم بالإرهاب ولا بالسياسة.

وجدت أمريكا نفسها في مواجهة حرب تحرير ومقاومة شعبية في أفغانستان والعراق لا علاقة فعلية لها بالإرهاب.

التعبئة الشاملة ضد “الفاشية الإسلامية” شغلت المجتمعات والدول بقضايا أقل أهمية، وتركت شعوب البلاد التي استهدفتها الحرب تعاني كل الأوجاع الإنسانية: الفقر والمرض والأمية والفجوات الاقتصادية والجريمة المنظمة والتلوث والفساد.

مئات الآلاف من المدنيين الذين سقطوا بلا سبب

يستعرض التقرير التاريخي، الصادر عن مشروع تكاليف الحرب على الإرهاب الصادر عن جامعة براون الأمريكية، حصاد الحروب التي شنَّتها الولايات المتحدة في العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها من المناطق التي خاض فيها الجيش الأمريكي صراعات، كثيراً ما أُشير إليها على أنها “حروب أبدية”.

كما أصدرت جامعة “براون” الأمريكية في العام الماضي تقريراً بعنوان “خلق أزمة اللاجئين: النزوح الذي سببته حروب الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/أيلول”، رصد نتائج الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة حول العالم في إطار الحرب على الإرهاب.

بسبب حروب عنيفة شنتها أو شاركت فيها القوات الأمريكية منذ عام 2001، نزح بين 37 مليوناً و59 مليون شخص في 8 بلدان في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وهو رقم أكثر من أولئك الذين شرّدتهم أي حرب أو كارثة منذ بداية القرن العشرين، باستثناء الحرب العالمية الثانية”.

كل هذه الخسائر ومكسب وحيد

في السنوات العشرين التي تلت هجوم 2001، حققت سياسة مكافحة الإرهاب الأمريكية بعض النجاحات التي تغنى بها المسؤولون في واشنطن وبعض عواصم الغرب، لكنها عانت أيضاً من بعض الإخفاقات المروعة.

هنا أبرز ما يمكن رصده في كشف حساب الحرب على الإرهاب في عشرين عاماً..

التشجيع على الإرهاب بعدم إزالة أسبابه

بينما كان الرئيس جورج بوش الابن يتباهى بصولات جيشه وجولاته في أفغانستان والعراق، فوجئ الأمريكيون بتقرير سري لوكالات استخبارات أمريكية يؤكد زيادة خطر ما سماه الإرهاب العالمي بعد حرب العراق.

وأثار التقرير جدلاً حاداً بين الرئيس الأمريكي جورج بوش والمعارضة الديمقراطية.

فالتقرير يؤكد أن حرب العراق أفرزت جيلاً جديداً من “الجهاديين”، ويذكر أن ثمة أربعة عوامل رئيسية لانتشار الإرهاب:

الاعتداءات الظالمة في العالم الإسلامي. وانبعاث الجهاد العراقي. وبطء مسار الإصلاحات في العالم العربي. والمشاعر المعادية لأمريكا.

لكن ما حدث هو أن الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض واصلت حربها معصوبة العينين، دون الالتفات إلى أي من هذه الأسباب الأربعة.

استمرت الحرب، واستمرت كل أسباب العنف والإرهاب.

ازدهار الحركات المتطرفة لمكافحة الغزو والاحتلال

كانت عناوين الصحف في العالم لا تخلو من إشارة لعمليات أمريكية عبر أنحاء العالم لمحاربة “التطرف والإرهاب”.

الإرهاب الذي ألبسته وسائل الإعلام الأمريكية وإدارة المحافظين الجدد عباءة “إسلامية”.

في الوقت نفسه كانت الحركات “المتطرفة” تجد لها في مراكز التوتر أرضية خصبة للنمو لتصل إلى مصاف الخطر العالمي.

وكانت أكبر ضربة للحرب الأمريكية العالمية على “الإرهاب” ميلاد ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية على مرمى عدة كيلومترات من جنرالات المارينز في بغداد.

وهكذا، وبفعل الحرب الأمريكية انتقل الصراع إلى بعد آخر.

التنظيمات التي كانت تحارب في جبال تورا بورا وصحراء الأنبار بالعراق وتمبكتو في مالي انتقلت إلى “مرحلة المدينية”.

وبرعاية العداء لأمريكا تأسست ما يشبه الدولة بين العراق وسوريا، وسيطرت على نحو 60% من مساحة سوريا وأجزاء كبيرة من العراق، وتحكمت في مدن مثل الموصل والرقة وموارد كبيرة بما فيها البترول.

وهكذا فقدت الحرب على الإرهاب بوصلتها بشكل كبير في ميدان المعركة، وأصبحت تؤدي خدمة لتنظيم الدولة والقاعدة، كما كتبت صحيفة Independent عام 2017.

تقوية اليمين المتطرف في الغرب

من غبار الاعتداءات الإرهابية على نيويورك، ورد الفعل الأمريكي العنيف عليها، ولدت هذه التربة الخصبة لمزيد من تطرف تيار اليمين في الولايات المتحدة. 

الحديث عن الحركات “الجهادية العنيفة” كان بمثابة هبة لمروجي أفكار كراهية الأجانب، وتفوق البيض، والقومية المسيحية.

ليس “الإرهابيون” وحدهم من أعطى المتطرفين اليمينيين دفعة.

فعلت ذلك أيضاً الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد الإرهاب، إذ حوّلت أجهزة الاستخبارات والأمن وإنفاذ القانون جل اهتمامها إلى “الخطر الإسلامي”، تاركة اليمين المتطرف في الدول الغربية ينمو “دون رادع”.

وأصبح “الراديكاليون في اليمين المتطرف” بالولايات المتحدة وأوروبا يبدون استعدادهم لتبني أساليب “الإرهاب”، فأضحوا- بطريقة أو بأخرى- “صورة مطابقة للجهاديين الذين يمقتونهم”.

الإسلاموفوبيا والخلط بين الإرهاب والدين

ما حدث بعد 2011 من تحريض وشيطنة لجماعة المسلمين كان جريمة تتجاوز أخطاء الحرب على الإرهاب.

توحدت جماعات الحركة اليمينية المتباينة على نظرية مؤامرة، مركزها هو فكرة استبدال كبير قادم للحضارة الأوروبية والبيضاء.

سيذهب المسيحيون ويأتي المسلمون.

سيختفي الرجل الأبيض ويسود الملونون.

ونظريات المؤامرة التي اندمجت مع سردية “الاستبدال الكبير” كانت تجد تشجيعاً غير مقصود من سياسات مكافحة الإرهاب التي انتهجتها واشنطن.

سياسات أحدثت تشويشاً في التمييز بين الإرهاب “الإسلاموي” والدين الإسلامي.

حقوق الإنسان “غير الأمريكي” أكبر ضحايا الحرب

بعد أن انطلقت المدافع صوب عواصم إسلامية، وطاردت الطائرات والمدمرات عناصر الميليشيات الموصومة بالإرهاب، بدأ الغرب يغير قوانينه التي أطاحت بكثير من الحقوق، بدعوى الوقاية من الإرهاب.

من أشهر قوانين مكافحة الإرهاب قانون الأمن الوطني الأمريكي أو “باتريوت آكت” بعد أسابيع من هجمات نيويورك.

نص القانون الواقع في 342 صفحة يسمح باعتقال غير الأمريكيين لفترات زمنية مفتوحة دون تهمة. 

يخفف القانون قيود مراقبة الهواتف والبريد الإلكتروني، ويوسع صلاحيات الأجهزة في القيام بتفتيش دون مذكرة رسمية. 

ويعطي القانون المدعي العام ووزير الخارجية صلاحية تصنيف أي مجموعة ضمن التنظيمات الإرهابية. 

وأصبح ملايين الأشخاص في الولايات المتحدة وأوروبا يمارسون أنشطتهم العامة في ظل مراقبة مستمرة من الكاميرات الأمنية، بينما ترصد أدوات مراقبة أخرى الاتصالات الخاصة.

وسارت دول أوروبية أخرى على النهج نفسه، بلجيكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها.

أصبح مسموحاً بدهم المنازل في أي وقت دون إذن قضائي. وأصبح المواطن يسير في الشارع تحت رقابة الكاميرات العامة، فيما يُسمح للشرطة باحتجاز المشتبه بهم عدة أيام دون توجيه أي اتهام.

وانفجرت فضائح سوء معاملة المعتقلين وانتهاكهم في أبوغريب وغوانتانامو وأفغانستان.

وكان لكل هذا أثره المباشر على حرب أمريكا المعلنة ضد الإرهاب.

في تقرير لمنظمة حقوق الإنسان الأمريكية هيومن رايتس ووتش ورد أن انتهاك أمريكا لحقوق الإنسان أدى إلى تعاطف مع الإرهابيين، كما أعطى مثالاً سيئاً للحكومات المستبدة.

وقالت المنظمة إن التعذيب والإهانة التي تعرض لها السجناء في العراق وأفغانستان وغوانتانامو أضرت بمصداقية الولايات المتحدة كمدافع عن حقوق الإنسان ومناهض للإرهاب.

النجاح الوحيد: منع الهجمات الإرهابية ضد أمريكا 

هناك ما يشبه الإجماع على أنَّ الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين منذ 11 سبتمبر/أيلول قد حققوا إنجازات مهمة في تعزيز الأمن، حيث ظلّت الأراضي الأمريكية حتى الآن في مأمن من التعرّض لمزيد من الهجمات الإرهابية على غرار ما حدث في 11 سبتمبر/أيلول.

على الصعيد العالمي، أضعفت القوات، التي تقودها الولايات المتحدة، تنظيم القاعدة، الذي فشل في شن هجوم كبير على الغرب منذ عام 2005. ساعد غزو العراق أيضاً في تخليص العالم من الديكتاتور صدام حسين.

من الناحية الإيجابية، فإنّ المنظمات الإسلامية المتطرفة، على غرار “القاعدة” وتنظيم “داعش”، باتت الآن ظلالاً لما كانت عليه في السابق.

هكذا غيَّرت الحرب صورة ووزن أمريكا

لم تهنأ الولايات المتحدة طويلاً بحكم العالم منفردة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. 

تمثل الفترة من لحظة سقوط جدار برلين عام 1989 إلى نهاية الأزمة المالية في 2009 نموذجاً للهيمنة المطلقة والمنفردة لأمريكا، التي قادت العالم في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

واعتقدت واشنطن أنها تستفيد من هذا الزخم عندما اتخذت قرارها بغزو أفغانستان 2001.

ثم كانت لحظة غزو العراق عام 2003 ذروة للهيمنة والغطرسة الأمريكية في العالم.

كانت تأمل في إعادة تشكيل العراق وأفغانستان.

ليس هذا فقط، بل إعادة تشكيل الشرق الأوسط بأكمله.

ويرى المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما أن الأُحادية القطبية التي اتسمت بها تلك الفترة كانت من الأمور النادرة في التاريخ. ولهذا، فسرعان ما بدأ العالم يعود إلى وضعه الطبيعي الذي تسود فيه تعددية الأقطاب، فاكتسبت بلدان كالصين وروسيا والهند والمحاور الأخرى كأوروبا نفوذاً على حساب أمريكا.

ما الذي أضافته الحرب على الإرهاب لصورة أمريكا، وما الذي سلبته منها؟. السطور التالية تحاول الإجابة.

انهيار جاذبية النموذج الأمريكي في عيون العالم

كانت الولايات المتحدة تجسيداً لحلم إنساني عالمي، تغذيه “القوة الناعمة”، أي جاذبية المؤسسات والمجتمع الأمريكي للناس في جميع أنحاء العالم. 

بعد الحرب على الإرهاب تراجعت جاذبية هذا النموذج إلى حدٍّ كبير.

من الصعب على أي شخص أن يقول إن المؤسسات الديمقراطية الأمريكية كانت تسير على ما يُرام في السنوات الأخيرة.

من الصعب على أي دولة أن تُقلِّد العصبية السياسية والاختلال الوظيفي الذي شهدته أمريكا منذ هجمات نيويورك.

ووصلت النخبة الأمريكية إلى ذروة جديدة من التخبط والانقسام وهي تعجز عن إجراء عمليات انتقال سلمي للسلطة بعد الانتخابات، وهو الاختبار الذي أخفقت فيه البلاد إخفاقاً مذهلاً في 6 يناير/كانون الثاني 2021.

هكذا تصاعد التطرف المحلي في أمريكا إلى ذروته في عهد دونالد ترامب، حتى وصل إلى اقتحام الكابيتول، في 6 يناير/كانون الثاني 2021، رفضاً لإخفاق ترامب في الانتخابات.

وقتها تحدث خبراء الإرهاب في واشنطن عن ضرورة الالتفات إلى الداخل الأمريكي، ورصد تحولاته الخطيرة بدلاً من الاهتمام بحركات التطرف في العالم، والحرب المزعومة على الإرهاب.

هنا أخطأت أمريكا في الحسابات

الحرب في أحد التعريفات، هي “سلسلة كوارث تفضي إلى النصر”.

لكن كوارث الحرب الأمريكية على الإرهاب لم تعرف النصر، ولم تصل إلى النهاية السعيدة.

على مدى 20 عاماً كافحت واشنطن، وأخفقت في الغالب، لتقليص المستوى الإجمالي للإرهاب الدولي.

وبعد عقدين كاملين من العمليات العسكرية والسياسية الدامية، أين نجحت حرب أمريكا على الإرهاب.. وأين فشلت؟ 

الحرب في أحد التعريفات، هي “سلسلة كوارث تفضي إلى النصر”.

لكن كوارث الحرب الأمريكية على الإرهاب لم تعرف النصر، ولم تصل إلى النهاية السعيدة.

على مدى 20 عاماً كافحت واشنطن، وأخفقت في الغالب، لتقليص المستوى الإجمالي للإرهاب الدولي.

لم تفشل.. ولم تحقق النجاح الكامل

بعد عشرين عاماً من حوادث 11 سبتمبر/أيلول، تبقى السياسة الأمريكية مكبَّلة، لكن مع تسجيل بعض النقاط الإيجابية. 

إذ أدى مزيج من التعاون الاستخباراتي والضغط العسكري على المسلحين في مخابئهم، وإلى تحسين الأمن الداخلي في الولايات المتحدة بتقليل العنف الإرهابي إلى حد كبير. 

مع ذلك، فشلت واشنطن في حل المشكلة بشكل دائم. 

إذ لا تزال جماعات مثل “القاعدة” ملتزمة بمهاجمة الولايات المتحدة. 

لن يختفي الإرهاب المتطرف، لكنّ تأثيره الأكبر بات محسوساً بشكل رئيسي في أجزاء من العالم؛ حيث المصالح الأمريكية محدودة. 

وعلى الرغم من أن العنف في تشاد أو اليمن كارثي بالنسبة لتلك البلدان، إلا أن تأثيره على أمن الولايات المتحدة أصبح ضئيلاً. 

لم تحقق الولايات المتحدة نجاحاً استراتيجياً، إذ لا توجد استدامة، بل ركزت الاستراتيجية على الجوانب العسكرية والأمنية، وأهملت الجوانب المتعلقة بالحكامة والسياسة والاستبداد، أو بالأحرى أهملت الأسباب الجذرية للإرهاب.

أين أخطأت أمريكا؟

لا بد أن تعترف أمريكا بأخطاء كثيرة في إدارتها لما سمته الحرب على الإرهاب.

هكذا كتب بروس هوفمان، الأستاذ بجامعة جورج تاون والمتخصص في مكافحة الإرهاب والأمن الداخلي في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي.

يضيف: في غياب هذا الاعتراف ستظل الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب عالقة في الطريق المسدود، وفاشلة في تحقيق أهدافها المعلنة.

يعدد هوفمان الكثير من “الأخطاء” الأمريكية في مقال مطوّل يزيد على 4400 كلمة، هنا أبرز ما جاء فيه.

وهم التفوق العسكري

اعتقد صانع القرار الأمريكي أن القضاء على القاعدة في أفغانستان، وترسانة صدام حسين المزعومة في العراق، أمر يمكن تحقيقه بسرعة ويسر.

وكان هذا حطأ كبيراً.

كان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد مؤمناً بأن إتقان المؤسسة العسكرية الأمريكية للتكنولوجيا الذي لا مثيل له لا يمكن وقفه ضد كل الأعداء، سواء كانوا التقليديين أو غير النظاميين.

لكن “غير النظاميين” أثبتوا سذاجة وهم التفوق في البلدين.

 

منح طالبان والقاعدة فرصة لإعادة البناء والتمدد

بعد غزو أفغانستان احتفل الأمريكيون في العاصمة بتسليم مقاليد الحكم لحلفاء محليين، وتركوا طالبان تلتقط أنفاسها بين الجبال البعيدة.

ثم منحت الحرب على العراق لحركة طالبان مساحة التنفس التي تحتاجها للتعافي وإعادة التنظيم.

استغرق الأمر من طالبان شهوراً فقط لإعادة تنظيم صفوفها والتعافي من الغزو، بينما تأكدت مزاعم بن لادن القديمة بأن الولايات المتحدة والغرب يشنان حرباً عدوانية على الإسلام وعلى الشعوب الإسلامية، مما أدى أيضاً إلى استدراج المجندين إلى صفوفه.

اغتنمت القاعدة بكل سرور الفرصة التي أتاحها لها العراق لإشراك “أعداء الإسلام” في مسرح آخر للعمليات.

التقليل الخاطئ من شأن الخصوم

أعلن بوش من سطح حاملة الطائرات أبراهام لنكولن انتصاره على القاعدة، وخلفه لافتة تحمل عبارة “المهمة أُنجِزت”.

ولم يكن ذلك صحيحاً.

قبلها بسنوات قال السياسي البريطاني ونستون تشرشل: بغض النظر عن استغراق القائد في صياغة أفكاره، فمن الضروري أحيانًا أخذ العدو في الاعتبار.

وكان خصوم أمريكا في هذه الحرب هم من احتفلوا بعد حين.

في الذكرى الثالثة لهجمات 11 سبتمبر/أيلول أشاد أيمن الظواهري باستراتيجية الحركة في عبارة قاسية: أصبحت هزيمة أمريكا في العراق وأفغانستان مسألة وقت. الأمريكيون في كلا البلدين بين نارين، إذا استمروا ينزفون حتى الموت، وإذا انسحبوا يفقدون كل شيء.

نشر البؤس والدمار بدلاً من الديمقراطية

بعد 18 عاماً من غزو أمريكا للعراق ما زال المواطن العراقي يبحث عن الاستقرار والأمن.

وما زالت بذور “الديمقراطية ” التي كان مخططو الغزو يأملون في غرسها في بغداد، ومن ثم السماح لها بالانتشار في المنطقة بأسرها، لم تتحقق بشكل مأساوي، ولكن أدت تجربة أمريكا الكئيبة في العراق إلى عواقب غير مقصودة لنشر البؤس والموت والدمار المستمر هناك، وقد امتد ذلك إلى الدول المجاورة أيضاً. وبعد مرور 20 عاماً من تحرير أفغانستان من حكم طالبان، دخلت الولايات المتحدة بحماقة في اتفاقية مستعجلة والتي تتمتع بكل الإمكانية لإعادتهم مرة أخرى إلى السلطة.

استنزاف الطاقات الأمريكية إلى ما لا نهاية

فور فوز بايدن بالترشيح في مارس/آذار الماضي، كتب في مجلة فورين بوليسي كيف أن “الوقت قد حان لإنهاء الحروب إلى الأبد… إذ إن بقاءنا عالقين في صراعات لا يمكن الفوز بها يستنزف قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلب اهتمامنا، ويمنعنا من إعادة بناء أدوات القوة الأمريكية الأخرى”.

استهداف القيادات لا يعني انتهاء أفكارهم

كانت الحرب على الإرهاب مغامرة عسكرية نادرة في التاريخ الأمريكي.

للمرة الأولى لم يكن أعداء أمريكا دولاً قومية لديها أجهزة عسكرية يمكن استهدافها وتدميرها وهزيمتها. 

تنظيم القاعدة وحركة طالبان ولاحقاً داعش، عبارة عن حركات عابرة للحدود، عقيدتها الدفاع الصارم عن المسلمين والأراضي الإسلامية.

وعندما بحثت الاستراتيجية الأمريكية في الحرب عن مركز ثقل تقليدي لتدميره، لم تجد سوى الأفراد في المقام الأول، وتصورت أنها تحقق الانتصار بقتل وسجن كبار الزعماء ومساعديهم.

نادراً ما نجحت استراتيجيات قطع الرأس في مواجهة حملات الحشد الجماهيري للإرهابيين أو المتمردين.

وتمثلت قوة تنظيمي القاعدة وداعش في القدرة على مواصلة الصراع عبر تعزيز الأفكار والمفهوم الأيديولوجي.

مات كثير من القادة، وبقيت الأفكار تحرك وتحشد وتقاتل.

القنابل وحدها لا تحسم مثل هذا النوع من الحروب

النجاح في مكافحة الإرهاب والتمرد لا يمكن أن يكون مسعىً عسكرياً فحسب.

يستدعي الأمر أنشطة سياسية واجتماعية واقتصادية وأيديولوجية ومعلوماتية، وهي الأنشطة التي سبق أن أقر بها  وزير الدفاع الأمريكي الأسبق وليم غيتس في منعطف حرج في حرب أمريكا على الإرهاب. 

قالها لكنه لم يحاول تنفيذها، هو أو سابقوه ولاحقوه.

تنتهي الحرب.. وتبقى ألغازها الكثيرة

في الثالثة والنصف عصراً بتوقيت نيويورك الشرقي يوم 31 أغسطس/آب 2021، غادرت الطائرة مطار حامد كرزاي الدولي في العاصمة كابول.

إنها آخر رحلة جوية في إطار إجلاء الأمريكيين من أفغانستان، بموجب الاتفاق على الانسحاب النهائي من أفغانستان بين الإدارة الأمريكية وطالبان.

انتهت المغامرة، لكن بقيت توابعها، وأسئلتها التي لا تجد أجوبة.

الحكم على حرب أمريكا ضد الإرهاب يركز فقط على الجانب العسكري ونتائجه المباشرة، لكن تلك الحرب وتداعياتها ودوافعها الفعلية لا تزال تمثل لغزاً كبيراً.

كانت الحرب على أفغانستان بدت من حيث الشكل مبررة، بسبب وجود بن لادن هناك في حماية طالبان، ولم يعترض كثيرون.

لكن غزو العراق لم يقنع الجميع، بل تسبب في انقسام العالم وقتها، لعدم وجود أسباب تدعو للحرب التي لا تزال تداعياتها الكارثية على بلاد الرافدين والمنطقة والعالم عرضاً مستمراً.

بعد نحو 20 سنة من الحرب على الإرهاب، التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وجدت الولايات المتحدة أنها غرقت في المتاهة.

من أفغانستان إلى العراق وسوريا واليمن والصومال والنيجر ومالي إلى غرب إفريقيا، تخوض واشنطن حرباً مفتوحة زمانياً ومكانياً.

وبدلاً من تحقيق هدف القضاء على الجماعات الإرهابية أو احتوائها، فإن هذه الجماعات تتمدد رغم الضربات القوية التي تتلقاها.

وتستثمر في رفض شعوب المنطقة لوجود قوات أجنبية على أراضيها.

وفيما تريد أمريكا الحفاظ على انفرادها بقيادة العالم، استنزفت الحرب على الإرهاب الكثير من مواردها البشرية والمادية، في الوقت الذي صعدت الصين اقتصادياً حتى تكاد تكون أقوى اقتصاد في العالم.

وتوسّعت روسيا بنفوذها العسكري في عدة مناطق من العالم، من أوكرانيا وجورجيا، إلى القوقاز وسوريا وليبيا.

لذلك جاء انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من مواقع النزيف، سواء في أفغانستان أو العراق أو سوريا أو إفريقيا، خياراً اضطرارياً.

الحرب على الإرهاب لا تتعلق بتضارب المصالح الوطنية فحسب، بل تتعلق بالقيم أيضاً. 

لا تزال هناك مصالح سياسية وأشواق إنسانية لتغيير الواقع والاستثمار فيه أكثر من حشد آلات القتل.

هناك أشواق للرغبة في التنمية الاقتصادية العادلة والمستدامة

والحكم الفعال.

والنهوض بحقوق الإنسان الأساسية.

والوعد بالديمقراطية التي حرّكت الربيع العربي قبل عقد من الزمن يبدو وثيق الصلة بكل هذه الأشواق.

بدأت الحرب وأمريكا تُشهر آلتها العسكرية المتفوقة في وجه عالم مضطرب، وها هي تأذن بالنهاية “الشكلية” في عالم أكثر اضطراباً ونزقاً.