تغريد مروان عبدالعال*

لم يعد يهمه كيف سنتذكره وبأية طريقة، كما أسرّ مرة لليام براون في مقابلة معه، حيث قال: “حين تتحرّر فلسطين وتتوحّد البلاد العربية، وتنتصر العدالة الاجتماعية، لا يهم كيف سيذكرني الناس أو سيذكرون قصائدي”.

لكن الشاعر الفلسطيني سميح القاسم (1939 – 19 آب/أغسطس 2014) الذي يعتبر أحد “ثالوث شعراء المقاومة” (محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد)، يعلم أن قصائده ستذكر في أكثر من مكان، فهو الشاعر الذي تمسّك بالثورة في القصيدة والحياة، ويدرك تماماً أن الشعر ثورة في الوقت نفسه.

حاول القاسم أن يتمسّك بخيط الحداثة، كما قال الشاعر عز الدين المناصرة بأن للقاسم “شعرية خاصة وأسلوب يجمع بين المقاومة والرغبة في الحداثة”، حيث أمضى حياته في خدمة القصيدة كما عبّر في إحدى المقابلات. فهو أحد شقّي البرتقالة، بتعبير إميل حبيبي في تقديمه لكتاب “الرسائل” بينه وبين الشق الآخر ، محمود درويش.

في مراسلاته الكثيرة مع درويش في كتاب “الرسائل”، كان سميح متوافقاً مع نفسه، ويذهب بعيداً ليحكي لصديقه عن تجربته كإنسان في وطن محتل. وكما كتب له درويش: “لسنا شاعرين هنا ولن نكون شاعرين إلا عندما يقتضي الأمر”. ثم يسأله “لا أعرف إن كنت سترضى بهذا التغييب اللازم لاستحضار إنسانيتنا المقهورة بعدوان الحب والقصيدة؟”. ليرد عليه القاسم في رسالة أخرى: “من حقك أن تلعب خارج ساحة الدار ومن حقك أن تعود”.

هكذا شكّل صاحب “لا أستأذن أحداً” صداقة شعرية وشخصية مع درويش، ولعل هذه العلاقة الثنائية جعلت البعض يرى سميح القاسم الأقل نجومية وربما الأقل شعرية.

سميح القاسم المولود في الأردن عاش طفولته في قرية الرامة في فلسطين المحتلة، ثم عمل في حيفا صحافياً ومحرراً في جرائد “الغد” و”الاتحاد” و”الجديد” التي أصبح رئيس تحريرها، كما أسّس من بعدها منشورات “عربسك” في حيفا مع الكاتب عصام خوري عام 1973، وأدار لاحقاً “المؤسّسة الشعبية للفنون” في حيفا. انتسب إلى الحزب الشيوعي في شبابه واعتقل وفرضت عليه سلطات الاحتلال الإقامة الجبرية أكثر من مرة.

أعطت فلسطين لسميح القاسم معجماً خصباً لكتابة نصوص وقصائد تخرج من رحم المعاناة مع الاحتلال. هكذا جاءت قصيدته الشهيرة: “يا عدو الشمس”، التي يقول فيها: “ربما تسلبني آخر شبر من ترابي/ربما تطعم للسجن شبابي /ربما تسطو على ميراث جدي/ من أثاث وأوان وخواب/ربما تحرق أشعاري وكتبي/ربما تطعم لحمي للكلاب/ربما تبقى على قريتنا كابوس رعب/ يا عدو الشمس لكن لن أساوم/ وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم”.

ولكن الملفت أيضاً أن الشاعر صار يبحث في تجربته الناضجة المتقدمة عن قصائد تعنيه كفرد في هذا العالم ووجوده كإنسان، وهي تجربة انتبه لها درويش والكثير من الشعراء. لكن لماذا حذف القاسم بعضاً من قصائده في ما بعد، بعدما حذف الرقيب الإسرائيلي أيضاً بعض قصائده؟

يرى الباحث عادل الأسطة في دراسة له حول ظاهرة الحذف عند سميح القاسم، أن القصائد التي حذفها من ديوان الحماسة كانت تمجد لينين والثورة الحمراء. لكن في العام 1992 كان الاتحاد السوفياتي قد انهار وكان القاسم قد ترك الحزب الشيوعي وصحافته وغدا رئيس تحرير جريدة “كل العرب” التي تختلف عن “الاتحاد” الشيوعية.

هذا الحذف لم يأت لأسباب سياسية فحسب، بل لأن الشاعر لا يعود حين تنضج تجربته الشعرية ينظر بعين الرضا إلى أشعاره الأولى، وهكذا تبدو أسباب الحذف جمالياً.

إلا أن الباحث يستنتج أن القاسم لا يتخلى عن هذه القصائد لأنها مباشرة أو بسبب خطابيتها، بل لأنه تغير سياسياً، والدليل أنه أبقى على قصائد لا تختلف جمالياً عن تلك التي حذفها، كما أنه لم يتخل عن القصيدة العمودية بل دافع عنها. كما أشار الأسطة في دراسات أخرى كيف حذف درويش ديوانه “عصافير بلا أجنحة” من أعماله الكاملة وعشر قصائد من “أوراق الزيتون”.

لكن أليست الكتابة نوعاً من أنواع الحذف؟ فربما في الكتابة الجديدة تتبين رؤية جديدة للكتابة نفسها. نسأل ذلك بعد قراءة بعض قصائد القاسم الحديثة التي تغلب عليها الأسئلة الشخصية، ففي قصيدة “طائر الرعد” يتأمل ويتمنى أن يأتي هذا الطائر الذي يصفه بأنه “شيء روائعه بلا حد”، فهل هو الأمل؟ الحياة؟ الفرح؟ الحرية؟ أو ربما الشعر؟

فها هو يقول: “ويكون أن يأتي/يأتي مع الشمس/وجه تشوه في غبار مناهج الدرس/ويكون أن يأتي/ بعد انتحار القحط في صوتي/شيء روائعه بلا حد/ شيء يسمّى في الأغاني/طائر الرعد/لا بد أن يأتي/فلقد بلغناها/بلغنا قمة الموت”.

ربما أراد القاسم الوقوف في وجه أحزانه القديمة كي يضيء، ولهذا أراد لقصيدته أن تكتب أشياء جديدة ومختلفة كما يقول في قصيدة “تعالي نرسم معاً قوس قزح”، “نازلاً كنت على سلم أحزاني القديمة: احرقيني احرقيني لأضيء”. أو في تلك النبرة الخافتة التي تخففت من المجازات رغم الإيقاع العالي في قصيدة “الساحر والبركان”: “وشعوذ الساحر فانطلق/من قمقم البحار مارد صغير/يريد للزورق أن يقبل الغرق/يريد للحرية الحمراء/أن تقطن في كوخ من الورق/يريد للجذور أن تحيا بلا شجر”.

كتب القاسم قصائد معروفة وتغنى في كل العالم العربي، منها قصيدته التي غناها مارسيل خليفة “منتصب القامة امشي .. مرفوع الهامة امشي”.

وحصل صاحب “أشد من الماء حزناً” على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في مؤسسات عدّة.

هكذا نال جائزة “غار الشعر” من إسبانيا، وجائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي، وحصل على جائزة “البابطين”.

كما حصد “وسام القدس للثقافة” من الرئيس الراحل ياسر عرفات، ثم “جائزة نجيب محفوظ” من مصر و”جائزة الشعر الفلسطينية”.

* المصدر : الميادين نت