من ينافس الآن على زعامة العرب؟
السياسية: متابعات : صادق سريع
إطلاق مصر والعراق والأردن لمشروع “الشام الكبير” يطرح السؤال عن مركز القيادة العربية الآن ومدى رغبة القاهرة وبغداد في منافسة الرياض وأبوظبي على القرار العربي
صباح الأحد، السابع والعشرين من يونيو/حزيران 2021، هبطت طائرة الرئاسة المصرية في مطار بغداد، للمرة الأولى منذ غزو الكويت في 1990، ما أدى إلى توقف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
هبط الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من الطائرة، ليجد في استقباله الرئيس العراقي برهم صالح، الذي استقبل بعد قليل العاهل الأردني عبدالله الثاني.
إنها القمة الثلاثية العراقية – المصرية – الأردنية التي تأجلت مرتين في السابق؛ الأولى بسبب حادث تصادم في مصر بين قطارين في آذار/مارس، والثانية إثر قضية “زعزعة الاستقرار” في الأردن في نيسان/أبريل.
وبالغت وسائل الإعلام الرسمية في الدول الثلاث في تغطيتها للحدث الكبير، ونقلت تصريحات مسؤولين عن أهمية “رفع مستوى التنسيق” بين الدول الثلاث و”تنمية آفاق التعاون في الاقتصاد والتجارة والتنمية ومشاريع البنى التحتية ونقل الطاقة والنفط”.
وحسب رئيس الوزراء العراقي، فهو “تكتل إقليمي قادر على مواجهة التحديات”.
فهل تكفي هذه العبارة النمطية الفضفاضة في شرح ما جرى في القمة؟
وهل هي “محاولة تنسيق” مثل عشرات من المشروعات التي لم تتم بين دول عربية منذ منتصف القرن الماضي؟
القمة الثلاثية ناقشت مشروع الشام الجديد الذي يهدف للتعاون بين البلدان الثلاثة في مجالات عدة، ولكن أبرزها تزويد العراق لمصر والأردن بالنفط، مقابل مشاركة الشركات المصرية والأردنية في عملية إعادة إعمار العراق، وتزويد العراق بالكهرباء، فيما يعرف بالنفط مقابل الإعمار، إضافة إلى استفادة مصر من فائض قدرات التكرير لديها، لتكرير النفط العراقي وتصديره لأوروبا، فيما ستلعب الأردن دور الممر في أغلب هذه المشروعات.
هذا التقرير يستعرض المنافسة العربية على قيادة الأمة منذ الاستقلال، منذ وجود مصر والعراق في الطليعة، حتى انتقال القيادة من “دول الماء إلى دول النفط”، خاصة السعودية ثم الإمارات، وأخيراً التطورات الراهنة في شبكات التحالف والصداقة والعداءات.
المنافسة الثلاثية: السعودية ومصر والإمارات
كان صباحاً بارداً في جامعة الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية القريبة من نهر بوتوماك الشهير في واشنطن، في أحد أيام شهر يناير/كانون الثاني 2016.
وفي واحدة من أكبر قاعات الجامعة، كان السفير الإماراتي الأشهر في تاريخ العلاقة بين البلدين، يوسف العتيبة، يتحدث مع الحاضرين عن قوة الروابط بين واشنطن وأبوظبي، إلى درجة أن الإمارات هي الدولة العربية الوحيدة التي دخلت 6 تحالفات مع أمريكا في ربع قرن.
العتيبة اعتبر أن بلاده هي من تقود المنطقة من خلال مبادرتها، مؤكداً أن “أبوظبي ستظل ثابتة في ممارسة دورها الإقليمي القيادي في المنطقة”.
في ذلك العام أيضاً كتب الباحث الأكاديمي الإماراتي عبدالخالق عبدالله القريب من دائرة القرار السياسي في الإمارات أن “السعودية هي اليوم مركز الثقل السياسي العربي والإسلامي، باعتراف الأصدقاء والأعداء”.
بعد عامين، وفي 2018 أثار عبدالخالق عبدالله الجدل مجدداً، بعد تغريدات ذكر فيها أن العاصمة الإماراتية أبوظبي أصبحت مركز الثقل العربي الجديد، في حين قرأها مغردون على أنها إساءة للسعودية، خاصة في ظل ما تتعرض له من ضغوط دولية جراء قتلها الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
تغريدات عبدالخالق عبدالله
وذهب الرجل إلى تفصيل رأيه بأن دبى وأبوظبى والشارقة وبقية المدن الخليجية هي التي تقود حركة التنوير والحداثة بالمنطقة العربية فى القرن الواحد والعشرين، وليس بيروت والقاهرة وبغداد.
ثم قال في وقت لاحق: البعض يلوموننا حين نكرر أن الإمارات هي اليوم الدولة القدوة في العالم العربي، وأن هذه لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر.
وهذه الفكرة الأخيرة عبر عنها السياسي الكويتي المخضرم السفير عبدالله بشارة الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي، حين نُقل عنه أن القرار العربي انتقل من دول الماء إلى دول النفط.
بدا وكأن تغريدات عبدالخالق عبدالله تصريح من الإمارات بتهميش الدور السعودي ومحاولة للتنكر منها وعدم مساندتها في أزمتها الحالية، وإظهار ما تضمره لها بانتزاع دورها في الوقت الحالي.
رأى آخرون أن هذه التغريدات تعد استفزازاً للسعودية ومحاولة غير بريئة من مسؤول إماراتي لإظهار نوايا الإمارات تجاه السعودية حليفها القوي في المنطقة.
القاهرة تدير هذه الصداقة المعقّدة مع الرياض وأبوظبي
بالرغم من ادعاء حسن النية والتضامن، فإن العلاقات بين الدول الثلاث غالباً ما تتميز بالتنافس والعداء: مصر والسعودية والإمارات.
خلال خمسينات القرن العشرين دخل الرئيس المصري جمال عبدالناصر في صراع مع الملك سعود الذي كان قلقاً من الكاريزما والجاذبية التي يتمتع بها عبدالناصر وسط العرب ومنهم السعوديون.
هدأت حدة الخلاف بين الجانبين على إثر حرب 1967 عندما ألحق الإسرائيليون الهزيمة بالمصريين، واحتلوا سيناء إضافة إلى غزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان. حينها تخلى عبدالناصر عن سياسته الإقليمية المثيرة للجدل، ثم جاءت وفاته في 1970 لتزيل أكبر تحد إقليمي كان يواجهه النظام الملكي السعودي.
مصر تخلت عن القيادة السياسية للعالم العربي بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر وتوقيع خلفه السادات لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل في 1979.
منذ ذلك الحين ظل مقعد القيادة شاغراً.
كانت هناك محاولات من جانب الرئيس العراقي صدام حسين تارة والعقيد معمر القذافي تارة أخرى لملء هذا الفراغ.
ولم ينجح أحد في امتحان الزعامة العربية.
تم تحييد مصر في العالم العربي ليبدأ تحول تدريجي في مركز الثقل من القاهرة وبغداد ودمشق إلى مدن الخليج الجديدة.
ظهر ضعف سوريا وعدم قدرتها على أن تصبح قوة إقليمية مع هزيمتها خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 وضعف الدعم العسكري الروسي.
وبالرغم من البراعة العسكرية التي اكتسبتها بغداد بعد الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت 8 أعوام حتى 1988، فقد تبدد ذلك بعد غزو الكويت وهزيمة القوات العراقية على يد تحالف تقوده الولايات المتحدة.
وحين توالت الانهيارات في المشرق بوجه أخص في ظل الفراغ المخيم برز دور دول الخليج التي امتلكت من القدرة الاقتصادية ما لم يتوافر لغيرها من دول الإقليم.
وبقوتها تلك فإنها تصدرت المشهد وتعاظم دورها السياسي بصورة نسبية، وأصبحت صاحبة القرار في الجامعة العربية على الأقل، إلا أن ذلك تم في ظروف بالغة التعقيد، يرى الكاتب المصري فهمي هويدي أنها الأسوأ في التاريخ العربي المعاصر.
السعودية منافس قديم.. ومُنافس جديد أيضاً
قد تكون السعودية في موقع الترحيب بحلف الشام بين مصر والعراق والأردن.
قد تكون سعيدة بمحاولة القاهرة تعزيز التعاون مع العراق لتقليل النفوذ الإيراني، أو مزاحمته ولو قليلاً، وهو ما بدا من احتفاء إعلامها بالقمة.
ولكن لا يعرف مدى نظرتها إلى آلية التعاون الثلاثي بين مصر والعراق والأردن.
هل تعتبرها شكلاً ولو محدوداً من التمرد من قِبل هذه الدول الثلاث غير الخليجية على الهيمنة الخليجية ولا سيما السعودية والإماراتية خلال السنوات الماضية على السياسة العربية؟
السؤال مشروع في ضوء تحركات القاهرة وبصورة أقل الأردن، في ملفات بشكل مستقل عن السعودية والإمارات.
في الحالة المصرية هناك المصالحة مع قطر بعيداً عن أماني أبوظبي، والتهدئة مع تركيا والوساطة في غزة، والحراك في الملفين الليبي والإثيوبي دون تنسيق التفاصيل كما كان يحدث في بداية حكم الرئيس السيسي.
تحت عنوان “علاقات القاهرة المعقدة مع الرياض وأبوظبي”، كتب موقع Geopolitical Futures في مارس/آذار الماضي أن العلاقات المصرية السعودية وصلت إلى درجات ممتازة من التعاون في “فترات استثنائية قصيرة”، عندما يكون هناك هدوء في المنافسة أكثر من كونها نتاجاً للصداقة.
وضربت الصحيفة مثالاً على ذلك باتهام أحمد قطان سفير المملكة السابق في القاهرة لرئيس وزراء مصر الأسبق حازم الببلاوي بإهدار 3 مليارات دولار من المساعدات المالية السعودية التي كان يحتفظ بها البنك المركزي المصري في عام 2013.
حدود التحالف بين كبار المتنافسين على القيادة
بخلاف السعودية، تمارس الإمارات سياسة خارجية عدوانية، وهو ما يفسر على الأقل جزئياً سبب كون علاقاتها مع مصر مشحونة بالتوتر في كثير من الأحيان. لكن محاولات مصر الخاصة لرسم مسار مستقل لم تنجح في تحويل البلاد إلى قوة إقليمية. بدلاً من ذلك، تتولى السعودية، وبشكل متزايد الإمارات، مقاليد الأمور كقيادة للمنطقة العربية.
رأت السعودية والإمارات أن انتخاب محمد مرسي المرتبط بجماعة “الإخوان المسلمون” في مصر عام 2012 يمثل إشكالية.
ولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد” يؤمن إيماناً راسخاً بأن نجاح “الإخوان المسلمون” في بلد واحد سيكون له تأثير “الدومينو” في جميع أنحاء المنطقة.
كما كان لدى العاهل السعودي الملك “عبدالله” مخاوف بشأن تحالف مصر الناشئ مع تركيا وقطر، بالرغم من نفي “مرسي” لذلك.
وقد وفرت الإطاحة بـ”مرسي” في 2013 بقيادة وزير دفاعه عبدالفتاح السيسي مهلة مؤقتة لدفء العلاقات بين المتنافسين، لكنها لم تدم طويلاً.
بعد اندلاع الحرب في سوريا، دفعت الرياض في اتجاه الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، بينما كانت مصر والإمارات مصممتين على إنقاذه من “تمرد مسلح تهيمن عليه الحركات الإسلامية”.
بالنسبة للسيسي وبن زايد، كان صعود الإسلام السياسي تهديداً وجودياَ.
لكن بالنسبة للعائلة المالكة السعودية، كان التهديد الأكبر الذي يتطلب العمل العربي الجماعي هو إيران.
وما زال هذا الخلاف في وجهات النظر قائماً بين الجانبين.
تجدد الخلاف المصري السعودي في شرم الشيخ 2015، بعد شهرين من خلافة الملك سلمان.
وقتها أطلقت السعودية عملية عاصفة الحزم لوقف تقدم الحوثيين في اليمن، قبيل القمة العربية في شرم الشيخ.
وعندما اجتمع رؤساء الدول العربية، اقترح السيسي تشكيل قوة عسكرية عربية تحت قيادة مصرية للدفاع عن وحدة أراضي الدول العربية.
الملك سلمان، الذي توقع فوزاً سعودياً سريعاً في اليمن، رفض خطة السيسي خوفاً من عودة القيادة المصرية في الشؤون العربية.
في ذلك العام انضمت مصر إلى “التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب” بقيادة السعودية، لكنها رفضت إرسال ممثلين إلى المقر الرئيسي في الرياض، معتقدة أن الهدف الحقيقي للتحالف هو مواجهة النظام السوري وإيران.
كما رحبت مصر بالاتفاق النووي الإيراني في عام 2015، بالرغم من معارضة السعوديين، وقالت إنها ستسعى إلى فتح الباب للتواصل السياسي مع طهران مع التفكير في شراء النفط الإيراني.
في 2016 زار الملك سلمان القاهرة وطالب بضم جزيرتي تيران وصنافير لبلاده، بدعوى أنها تنازلت عنهما في الخمسينيات لمصر.
ووافق السيسي الذي كان في أمسّ الحاجة إلى المساعدة المالية.
في نهاية العام صُدم السعوديون بتصويت مصر في مجلس الأمن لصالح اقتراح روسي لإنهاء الأعمال العدائية في شمال سوريا حيث اقتربت قوات النظام من شرق حلب الذي يسيطر عليه المتمردون. وعندما وصف سفير السعودية لدى الأمم المتحدة الموقف المصري بالمؤلم، رد السيسي بقوله: لن نركع إلا لله.
ثم إن هناك عتاباً مصرياً مريراً للصديقين اللدودين.
لم تعرض أبوظبي ولا الرياض استخدام نفوذهما، كمستثمر رئيسي في إثيوبيا، للتأثير على المحادثات بشأن سد النهضة الإثيوبي، وهو مشروع له تداعيات كبيرة على مصر كدولة مصب.
وهكذا استمرت المنافسة على قيادة الوطن العربي وامتلاك النفوذ بين الزعماء بعيداً عن العلن، كما استمرت الابتسامات والأحضان في لقاءات القمة.. أمام عدسات التصوير.
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع