عام على انفجار بيروت… مبان رممت وجراح تزداد عمقا وألما
الأهالي يستعيدون اللحظات المروعة وسوداوية اليوم المشؤوم لن تمحى من أذهانهم
كارين اليان ضاهر
بعد عام على انفجار مرفأ بيروت الذي حصد أكثر من 200 ضحية وما يفوق عن 6000 جريح، والذي يُعدّ أحد أكبر الانفجارات في العالم، يبدو وكأن العاصمة لملمت جراحها في الظاهر، وكذلك أهلها. لكن في الواقع، كيف لمدينة الفرح والسعادة أن تستعيد حيويتها بعد كارثة مماثلة؟ وكيف لأهلها أن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية وأن يمحوا من ذاكرتهم ذاك التاريخ الذي بدّل حياتهم إلى الأبد، خصوصاً أنهم لا يزالون ينتظرون تحقيق العدالة حتى اللحظة.
قلة قليلة من أهالي بيروت، تحديداً في منطقة المدوّر على مقربة من موقع الانفجار، تمكنت من متابعة حياتها وترميم منازلها، بدعم من جمعيات عدة أسهمت في ذلك، علّ ذلك يساعد هؤلاء على تخطي ذكرى تلك الليلة المشؤومة ونسيان تفاصيلها بكل ما فيها من قسوة. اليوم، في الذكرى السنوية الأولى للرابع من أغسطس (آب)، ها هم يستعيدون أصعب اللحظات والتفاصيل التي عجز الزمن عن محوها، وربما لا تتمكن الأعوام المقبلة من إزالتها من أذهانهم.
لحظات مرعبة
تعود ليليان زعرور بالذاكرة إلى ذاك المساء، إلى اللحظات التي قلبت حياتها رأساً على عقب وخسرت فيها زوجها. كانا يجلسان في منزلهما ويشاهدان التلفزيون عندما سمعا دوي الانفجار الأول، ما تسبب لهما بحالة من الهلع، خصوصاً أنهما سمعا بعدها صوت طيران فظنّا أن المدينة تتعرّض للقصف. “من شدة خوفي من القصف، أرسلت إلى ابنتي القريبة من المطار لأطمئن عليها. خلال لحظات قليلة دفعني عصف الانفجار وأصبت بكسور عدة في جسمي. أما زوجي، فكان قد خرج إلى الشرفة، ووجدته مرمياً على الأرض”.
تعجز السيدة زعرور عن محو تلك اللحظات من ذاكرتها، فتؤكد في حديثها أنها تستعيدها يومياً ولا تفارق ذهنها، إذ على إثر الانفجار، دخل زوجها في غيبوبة لمدة 50 يوماً نتيجة الضربة التي تلقّاها على رأسه. بقي قابعاً في المستشفى بين الحياة والموت ولم يستطِع بعدها أن يقاوم أكثر، فتوفي في اليوم الذي وُلدت فيه حفيدته. تتذكر يومياً ما حصل في 4 أغسطس، بكل تفاصيل تلك الليلة والمشاهد التي رافقتها وصور المنطقة والمستشفيات والطرقات والأحاسيس، خصوصاً في وحدتها. طوال فترة، كانت تجد فيها صعوبة في النوم، فباتت تعاني نحولاً زائداً وتكافح في ظل إصابتها النفسية والجسدية في الوقت ذاته. عادت السيدة زعرور ورممت منزلها بمساعدة جمعيات أسهمت في ذلك حتى عاد أقرب إلى ما كان عليه قبل الانفجار، إلا أنها حتى اللحظة لم تستطِع الإقامة والنوم فيه ولو لليلة واحدة، كونها تخشى ما يمكن أن تحسّه في وحدتها. فكل زاوية فيه تحمل ذكريات، لذلك هي تعيش منذ ذاك الوقت مع ابنتها التي ولدت طفلتها، فتساعدها في العناية بولدَيَها.
“طوال حياتنا، عملنا على تأسيس منزلنا ووضعنا كل ما نملك فيه حتى كبرنا لنتابع حياتنا معاً. في لحظة، خسرنا كل شيء، خسرنا رزقنا وحياتنا وحتى اللحظة، لا نعرف شيئاً عن سبب ما حصل في بلدنا الذي لا تُحترم فيه أبسط حقوق مواطنيه، ويخسرون أرواحهم من دون أي تعليق يبرّد قلوب أحبائهم”. حتى اليوم ثمة لحظات كثيرة وتفاصيل تعيدها إلى ذاك التاريخ، خصوصاً عندما تلتقي بأهالي ضحايا الانفجار وترافقهم في تجمعاتهم. الحزن ربما يتضاءل مع الوقت في الظروف الطبيعية، لكن كارثة من هذا النوع يصعب تقبّلها، فتبقى الخسارة حرقة في القلوب يعجز الزمن عن تهدئتها.
بين الحرب وانفجار المرفأ
أما السيدة جانيت نعمة، فمثل غيرها من سيدات المنطقة كانت تجلس في منزلها مع زوجها وحفيدها برفقة جارتها كما في كل مساء، حين دوّى الانفجار الذي تسبب بتحريك الأثاث وتزعزع الأبواب، ما أرعبهم خصوصاً عندما سمعوا صوتاً أشبه بصوت الطيران. هرع الكل للاختباء، لكن بعد أقل من دقيقتين دوّى الانفجار الثاني، ففقدت الوعي واستيقظت على الأرض بعد أن رماها عصف الانفجار لتجد نفسها وسط الركام. “همي الأول كان الاطمئنان على حفيدي، فأتى إليّ مرعوباً وراح يصرخ لأن الدم كان يغطي ملابسي. ونظرت من حولي ووجدت زوجي مضرجاً بالدماء بسبب الضربة التي تلقّاها على رأسه. أما في المنزل، فلم يكن شيئاً على حاله”.
بلحظتها، اختفى النور وكأن الظلام خيّم على المدينة. عندما نزل الجميع إلى الشارع فقط علموا أنه لم يكن قصفاً كما توقّعوا، بل رأوا مشهداً مرعباً يصعب وصفه ما بين الدمار والمصابين والجثث في كل مكان والغبار الأحمر في الأجواء. تصف السيدة جانيت اللحظات الأولى المؤلمة لتسرد كيف أن جيرانها ومنهم المسنين أُسعفوا وحُملوا من قبل الشباب على السلالم والدم يغطي أجسامهم، وأيضاً عن جارتها المسنة التي خافت من صوت الانفجار الأول، فتوجهت نحو السلالم ورماها عصف الانفجار الثاني، فارتطم رأسها وتوفيت على الفور. الأطفال كانوا يركضون حفاة ومن الناس من كانوا عراة. فرؤية المشهد في المنطقة كانت الكارثة الكبرى لها بعد ما رأته في منزلها، وكان الذهول والهلع يخيّمان على المكان.
صحيح أن منزل العائلة كان قُصف في الحرب مرتين ورُمّم، لكن لا يشبه ذلك أبداً ما تعرّض له في انفجار المرفأ، على حد قولها. فما حصل بعيد كل البعد عما مرّوا به سابقاً. في الحرب كان من الممكن الاختباء من القصف، أما “جريمة انفجار 4 أغسطس تفوق رعب الحروب. فلم يكُن أحد يفكر بأن أمراً سيئاً يمكن أن يصيبهم وهم جالسون بأمان في منازلهم”.
الفاجعة بدّلت ملامح المنطقة كلها وأشكال البيوت، لكن الأثر النفسي هو ذاته.
ومذاك، تتوجه إلى المستشفى يومياً لمعالجة ساقها المتضررة منا الانفجار، ولا يزال الألم لا يفارقها، خصوصاً بعدما تعرّضت لالتهاب حاد فيها وتشوهات.
من جهته، يتحدث مارك محفوظ عن منزل خالتيه في منطقة المدور، حيث تربّى، فاعتبره منزله الثاني. علاقته بخالتيه كانت قوية لدرجة لا توصف، لكن شاء القدر أن يفترق عن إحداهما في 4 أغسطس الماضي. ففي ذاك المساء، كان في الجبل عندما علم بالانفجار ورأى في اللقطات المرعبة التي وصلته أن الكارثة قريبة من منزل خالتيه. وصل ابن خاله قبله وأخبره عن هول المشهد وأنه نقل خالتيه إلى المستشفى في بيروت. “ما رأيته في المستشفى كان منظراً يستحيل وصفه. ووسط الأجواء المرعبة، كانت خالتي ممددة على أحد الأسرّة وكانت يدها وساقها مكسورتين. أما خالتي الثانية، فلم يكُن هناك مكان لها ونقلناها إلى مستشفى آخر، وهي تلقّت ضربة قوية على رأسها بعدما سقط عليها باب مدخل المنزل. لم تستطِع أن تقاوم أكثر ووصلت إلى أقرب مستشفى قبل استقبالها، متوفاة. رحت أصرخ طالباً المساعدة لإنقاذها لكننا خسرناها”.
وجد منزل الطفولة ومنزل خالتيه مدمراً بالكامل. وفيما تلقّت خالته العلاج من الكسور التي تعرّضت لها، رمّمت المنظمة غير الحكومية ACUA البيت بالكامل واهتمت بالتفاصيل كافة، فأعادته أجمل مما كان عليه، حتى إن الحائط غير الآمن فيه هُدّم بالكامل وأُعيد بناؤه، إضافة إلى إمدادات الكهرباء الجديدة التي أقيمت وتم الاهتمام بشكله الخارجي. “بنى جدي المنزل قبل 100 عام بدءاً بغرفة واحدة ثم أضاف غرفاً. كما لبّس الجدران بالحجر الرملي من الخارج. فحرصت ACUA على إعادة البناء الحجري القديم بجماليته وأدخلت كل التحسينات عليه وعلى الشارع كاملاً”.
ما إن أصبح البيت قابلاً للسكن، وعلى الرغم من الذكريات الأليمة فيه، قرر محفوظ ألا يترك خالته وحيدة بعد وفاة شقيقتها وعاد ليسكن معها برفقة عائلته لمؤانستها في وحدتها.
منطقة مهملة أعيد تأهيلها
عندما تأسست المنظمة غير الحكومية ACUA قبل الانتفاضة، وضع القيّمون عليها أهدافاً مختلفة ومشاريع، وعلى رأسها التطوير على صعيد المجتمع وإقامة دورات تدريبية هدفها توفير فرص عمل. أما بعد الانفجار، فتبدّلت المعطيات، كما توضح رئيسة ACUA رولا فاضل، فكان لا بد من النزول إلى الشارع والتركيز على حاجات الناس، ليبتبيّن أن شارع المدوّر القريب من المرفأ الذي تضرر بالكامل بسبب الانفجار، هو أصلاً ضمن منطقة مهملة ولأهلها أمور أساسية كثيرة يجب العمل على تأمينها. “كانت جمعيات كثيرة موجودة إلى جانب أهالي المنطقة بعد الانفجار، إنما بحثنا في ما يمكن تقديمه أكثر لهم. أتت فكرة العمل على شارع نموذجي، لا نعيد فيه بناء المنازل فحسب، إنما نساعد أيضاً الناس، فنوفّر لهم مقومات العيش الكريم في شارع متكامل من النواحي كافة، فكان شعارنا ’الحجر والبشر‘”.
رممت المنظمة المنازل وأدخلت التحسينات في شكلها الخارجي من الناحية الهندسية، مع الحفاظ على الطابع التراثي لتلك المنطقة. فالتحسينات التي نُفّذت تخطت الأضرار التي تسببها الانفجار لاعتبارها من المناطق المهملة وأوضاع الأهالي في الشارع الذي تحوّل إلى شارع نموذجي بالتعاون مع المهندس دوري حتي، تُعتبر سيئة مادياً وهم يحتاجون إلى مساعدات من النواحي الحياتية كافة. إضافة إلى ذلك، تم تأمين حاجات الأطفال من خلال تزويدهم بأجهزة إلكترونية للتعلم عن بعد، والأثاث للمنازل والإضاءة للشارع وغيرها… ليكون الشارع متكاملاً. هذا إضافة إلى الدعم النفسي من جانب خبراء واختصاصيين لأهالي المنطقة باعتبارهم كانوا بأمس الحاجة إليه إثر الانفجار.
وتشير فاضل إلى أنه في مرحلة ما، تبيّن للجمعية أنه لولا اليوم المشؤوم لما كانوا التفتوا ربما إلى هذه المنطقة المهمشة، التي بدا وضع أهلها مأساوياً فعلاً. لذلك، جرى العمل على إعادة مقومات العيش الكريم لهؤلاء، بخاصة أن الدولة لم تنظر إليهم يوماً.
طوال العام الماضي، جرى العمل بجدّية على ترميم المباني المتضررة في محيط الانفجار، حتى عادت في نسبة كبيرة منها إلى ما كانت عليه قبل الحادثة المريعة. إلا أن الجروح التي تسببتها هذه الكارثة في قلوب المواطنين يصعب أن تلتئم بهذه السهولة، خصوصاً إذا لم تتحقق العدالة بالنسبة إليهم.