تونس بين الفوضى وصراع الشرعيات
السياسية / مركز البحوث والمعلومات
ليلة طويلة عاشها التونسيين بمختلف انتماءاتهم بعد أن خرج الرئيس التونسي قيس سعيد على شاشات الفضائيات بمجموعة من القرارات الحاسمة “والمثيرة للجدل” بشأن مستقبل العملية السياسية في تونس.
وشملت القرارات الرئاسية بعد اجتماع ترأس فيه سعيد القيادات العسكرية والأمنية إعفاء هشام المشيشي من رئاسة الحكومة إلى جانب تجميد كافة اختصاصات البرلمان التونسي، ورفع الحصانة عن النواب، إضافة إلى تولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة سوف يتم تعييه من قبل رئيس الجمهورية، وأن رئيس الحكومة “مسؤول أمام رئيس الجمهورية” وإلى أن “رئيس الجمهورية هو الذي يتولى تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيس الحكومة”، وإلى أن “رئيس الحكومة يرأس مجلس الوزراء إذا دعاه رئيس الدولة إلى ذلك، لأن مجلس الوزراء سيتولى رئيس الجمهورية ترؤسه”.
وخلال الكلمة المصورة، أشار الرئيس التونسي إنه عملاً بأحكام الدستور، اتخذ “تدابير يقتضيها هذا الوضع لإنقاذ تونس، الدولة التونسية والمجتمع التونسي”، وأضاف: “اتخذت جملة من القرارات التي سيتم تطبيقها فوراً”، وأكد إنه “لا مجال لأن نترك لأحد أن يعبث بالدولة وبمقدراتها وأن يعبث بالأرواح والأموال، ويتصرف في الدولة التونسية وكأنها ملكه الخاص”، وفي ختام الاجتماع الرئاسي، أكد سعيد أن جملة القرارات سوف تصدر في شكل مراسيم “كما ينص على ذلك الدستور”، وأن الغاية من (القرارات الرئاسة) ذلك هو عودة السلم الاجتماعي وإنقاذ الدولة والمجتمع.
يشار إلى أن القرارات الرئاسية أعقبت أزمة طويلة مازالت تراوح مكانها، بعد أن فشلت كل الجهود في إيجاد الحلول العملية القادرة على إخراج البلد من مسار طويل من الصراع ما بين “رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والبرلمان” وفي مقدمتها رفض الرئيس قيس سعيد أداء عدد من الوزراء للقسم “نتيجة وجود شبهات فساد” بعد أن صدق عليهم مجلس النواب ضمن تعديل شمل 11 وزير الذي أجرته حكومة هشام المشيشي مع بداية العام الحالي.
والقارئ للمشهد التونسي بعد القرارات الرئاسية يتبين له أن الرئيس قيس سعيد دخل الصراع وأصبح قطباً رئيساً في المشهد التونسي، فمنذ وصول الرئيس إلى القصر الرئاسي في قرطاج بعد تحقيقه الفوز في الانتخابات الرئاسية وحصوله على دعم نحو 72% من أصوات الناخبين، وبدا واضحا أن النتائج تُعد رسالة رفض لمنظومة الحكم ورفض لكل الأحزاب وللأداء السياسي برمته، وبناء على ما تم تحقيقه في الانتخابات كان من الواضح أن الاكاديمي قيس سعيد على معرفة أن وصوله إلى مقعد الرئاسة، اعتبر رسالة قوية أراد من خلالها الناخب التونسي التأكيد على رفضه للعملية السياسية “بمجملها” التي أعقبت الثورة التونسية في 2011 من جهة، ومن الجهة الأخرى أراد الناخب التونسي من خلال التصويت للمرشح قيس سعيد توجيه العقاب للطبقة السياسية على فشلها وخذلانها للشعب وعلى إهماله والتعالي عليه وعلى الاستخفاف به، وعدم الوضوح والصدق معه خلال السنوات الماضية.
ومما لا شك فيه، أن قرارات الرئيس سعيد وحسب العديد من المراقبين للشأن التونسي، تسعى إلى إعادة المسار الثوري إلى طريقه الصحيح لا سيما وأن الشعب أصيب بخيبة أمل بعد فشل الحكومة الحالية في تجاوز الأزمات الاقتصادية والسياسية، وأخيرا الأزمة الصحية الخانقة التي ضربت تونس بعد انهيار المنظومة الصحية بسبب تفشي فيروس كورونا، ومنذ اليوم الأول للرئيس سعيد في قصر قرطاج، كان التحدي الأبرز يتمحور حول محدودية الصلاحيات الممنوحة للرئيس مقابل صلاحيات أكبر للحكومة.
ويُصنف النظام السياسي في تونس بأنه برلماني معدل، حيث يفوض الدستور سلطات واسعة لرئيس الحكومة التي تشكلها الأغلبية الفائزة في البرلمان، مقابل صلاحيات محدودة لرئيس الجمهورية، وتشمل تلك الصلاحيات وبحسب الدستور التونسي “تمثيل الدولة وضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة، حل مجلس نواب الشعب في الحالات التي ينص عليها الدستور، ترأس مجلس الأمن القومي، ترأس القيادة العليا للقوات المسلحة، إعلان الحرب وإبرام السلم بعد موافقة مجلس نواب الشعب وإرسال قوات إلى الخارج بموافقة رئيس مجلس نواب الشعب والحكومة”، وبحسب الدستور، يتبين أن الصلاحيات الأهم تنحصر في مجالي الدفاع والخارجية، إضافة إلى صلاحيات في تقديم مشاريع قوانين.
المؤكد أن الرئيس قيس سعيد سعى من خلال القرارات التاريخية إلى تجاوز مختلف العوائق من خلال استخدام صلاحياته الدستورية المعززة بالشرعية الشعبية (التي منحته نحو 3 ملايين صوت) في مواجهة البرلمان والحكومة، في سبيل فرض معادلة جديدة داخل النظام التونسي القائم.
ولا بد من الإشارة إلى أن الأزمة الحالية ليست سوى تراكمات كبيرة سبقها اختلاف جذري في رؤية كل طرف للعمل السياسي، حيث ينطلق الرئيس في سياساته من توجه يعتقد بضرورة تطبيق القانون بصرامة دون القبول بالتوافقات وأنصاف الحلول والتي التي كانت السبب وراء الفشل الذي تعيشه تونس اليوم وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والصحية، فيما تنطلق الأحزاب التونسية في عملها السياسي من مقاربة أن الضرورة تفرض عليها الدخول في صفقات ومساومات مع مختلف القوى السياسية من أجل الحفاظ على مصالحها داخل السلطة القائمة.
بالمقابل هناك من يعتقد أن القرارات الرئاسة ليست سوى تنفيذ عملي لما كان سابقاً من تلويح الرئيس خلال الأشهر الماضية عن رغبته في سحب الثقة عن الحكومة، من أجل التوجه لانتخابات برلمانية مبكرة، تضمن له المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة عبر قوائم مستقلة، تمنحه في حال انتخابها دعماً إضافياً من خلال كتلة “رئاسية” داخل البرلمان كخطوة أولى، وفي الخطوة الثانية المضي نحو تنفيذ مشروع الديموقراطية المباشرة (الذي دعا له خلال حملته الانتخابية) والقائم على توزيع السلطة على مجالس جهوية في مختلف مناطق البلد.
وينظر لهذا المشروع من قبل مناوئي الرئيس سعيد، أنه تجاوز لدور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وآليات السلطة التقليدية، وسعياً للتغيير الجذري في النظام السياسي المقر حسب الدستور التونسي، كون المشروع ينطلق من فكرة تبدو أقرب للنظام الشعبي الاشتراكي المحكوم من قبل جموع الجماهير عبر إدارة محلية تكون منطلق السلطات المركزية، وأن يكون حكم البلاد بواسطة نظام رئاسي تشاركي مع برلمان يتم تصعيده آلياً بواسطة منظومة الحكم المحلي المباشر دون وساطة من قبل الحزبية.
يبقى القول، أن الشعب التونسي ومع دخول البلد أزمة صحية غير مسبوقة جراء تفاقم انتشار وباء كورونا، الذي فاقم بدوره الوضع الإقتصادي الصعب، كان ينتظر حل الأزمة من قبل أطرافها، ولكن ما حدث خالف كل التوقعات في التعاطي العقلاني مع الخلافات السياسية القائمة.