لماذا يحرقون المكتبات؟
من "مكتبة الإسكندرية" في العام 48 ق.م إلى "مكتبة سمير منصور" في غزة.. لماذا يحرقون ويدمرون المكتبات؟
السياسية :
أعاد حَرْق “إسرائيل” لــ “مكتبة سمير منصور” في غزَّة إلى الذاكِرة محنة حَرْق المكتبات تاريخياً، والتي عبَّر عنها الشاعر الألماني هاينريش هانيه (1797 – 1856) بالقول: “حيثُ تُحْرَق الكُتُب… يؤول الأمر إلى حَرْق البشر”.
تعرّضت المعرفة الإنسانيَّة على مرّ التاريخ لنكساتٍ عديدة، فاحترق الكثير من المكتبات، بدءاً من مكتبة الإسكندرية في العام 48 ق.م، ولن ينتهي بتدمير الاحتلال لــ “مكتبة سمير منصور” في العدوان الأخير على غزة.
وحرب “إسرائيل” على الفلسطينيين والعرب كانت في جزءٍ منها، حرباً على الثقافة المقاومة للاحتلال. حرب على ذاكرة الشعب المقاوم لإخفائها وطمسها.
لماذا يحرقون المكتبات؟
يعجّ التاريخ العربي والعالمي بمئات حوادث حَرْق الكُتُب والمكتبات، ويُرجِع الكاتب خالد السعيد في كتابه “حَرْق الكُتُب.. تاريخ إتلاف الكُتُب والمكتبات”، أسبابها إلى شرعية، وعلمية، وسياسية، واجتماعية قبلية، ونفسية وتعصّبية.
أما علي السمير، المُختصّ في علوم المكتبات، فيقول في حديث مع الميادين الثقافية “إنَّ “الأسباب الشرعية لحَرْق الكُتُب كان يتصدّى لها بعض فُقهاء الدين وحُرّاس العقيدة، وأحياناً السلطان نفسه، بإيعاز من شيوخ المسلمين”.
لكن السمير يميز بين “كُتُب أُتلِفت بسبب مُخالفتها للدين، وأخرى نتيجة مُشاحنات مذهبية ومُناكفات فُقهية”، مضيفاً “هناك كُتُب أُتلِفت لأسبابً علميَّة، نتيجة اكتشاف أخطاء فيها أو الخوف من الاتّكال عليها وإهمال حفظها”.
في حين، اضطر بعض السلاطين أو مَن في حُكمهم لإتلاف كُتُب ومكتبات بكاملها لما فيها من ذمٍّ وتحريضٍ عليهم أو مدحٍ لخصومهم، بحسب تعبير السمير.
وعمد بعض المُفكّرين إلى إشعال النار في كُتبهم، بسبب الفقر والإحباط، والشعور بالوحدة والإهمال، كما فعل أبو حيّان التوحيدي في القرن الرابع الهجري.
أما عن حَرْق المكتبات في غزَّة، فيقول السمير بأنَّ “غاية العدو الإسرائيلي من استهداف المكتبات في القطاع تكمُن في تدمير ذاكِرة الفلسطينيين، وطَمْس هويّتهم الوطنية وشعورهم بالانتماء”.
حَرْق المكتبات تاريخياً
ليس البشر والحجر مَن يتعرَّضان للتدمير والقتل خلال الحروب والنزاعات فحسب، بل الثقافة وحواملها من الكُتُب والمكتبات ودور النشر، تُعدّ هدفاً مباشراً للتدمير والقتل.
وينطلق تدمير المكتبات عبر التاريخ من دوافع واحدة، بدءاً من مكتبة الإسكندرية القديمة إلى سراييفو الحديثة حيث دُمّرت مكتبة البوسنة من قِبَل الصرب، حيث خسرت المكتبة أكثر من 5 آلاف مخطوط شرقي يرجع بعضها إلى القرن الــ 11 م.
ويشير المؤرّخون إلى فُقدان البوسنة لــ 400 ألف كتاب، و60% من مكتبات كليّاتها، وإحراق المكتبة الوطنية التي تحوي مليون ونصف مليون مجلّد، و155 ألف كتاب ومخطوط، والرسائل العلمية، في حريق استمرّ مدة 3 أيام.
وانتشرت خلال تلك الفترة (1992) قصص تروي أن موظّفي المكتبات كوَّنوا سلسلة بشرية في سراييفو لإنقاذ الكُتُب عندما تعرّضت المكتبة الوطنية والجامعية للبوسنة والهرسك لنيران مُتعمَّدة ومستمرة من الجيش الصربي.
وما حدث في البوسنة، تكرَّر في غيرها من الدول لأسبابٍ مختلفة تتمحور حول هدف واحد يتجسَّد في الرغبة بالسيطرة ومحو الثقافة التي لا بدّ من أن يرافقها تدمير للكُتُب والمكتبات.
كما تجلَّت الخسارة الكُبرى في تدمير المكتبات عندما اجتاح المغول بغداد وقاموا بإلقاء جميع محتويات مكتبة “بيت الحكمة” في نهر دجلة، وكانت تضمّ حينها زهاء مليون كتاب، كما دمَّروا 36 مكتبة عامة في بغداد، كما يقول لـ الميادين الثقافية الخبير في علوم المكتبات هيثم محمود.
وتؤكّد المراجع التاريخية أن الحربين العالميّتين الأولى والثانية شهدتا الكثير من تدمير المكتبات وحَرْق مُقتنياتها بشكلٍ همجي، حيث قُضيَ على ملايين المخطوطات والكُتُب التي هي من نتاج الفكر الإنساني، والتي في حال لو بقيت لكان لها دورها الفاعِل في تعمير الكون وسرعة تطوير الحياة بمختلف أبعادها.
حَرْق المكتبات اليوم
يروي محمود أن المكتبات والكُتُب تعرَّضت لتدميرٍ ممنهجٍ وليس عشوائياً منذُ حَرْق “مكتبة الإسكندرية” وصولاً إلى “مكتبة سمير منصور” في قطاع غزَّة.
ويقول: “عندما يكون هدف المعركة محو الثقافة، لا بدّ من أن يرافقه تدمير المكتبة، وهو ما يحدث في فلسطين اليوم”، مذكراً بأن مقولة “لو تحطّمت المعامل والمصانع، وبقيت المكتبات والكُتُب لتمكّنا من إعادة بنائها من جديد”، تؤكّد على دور المكتبات التاريخي في حفظ الفكر البشري.
وبناء على هذا الدور، يَعمد المُستعمِر قديماً والاحتلال الإسرائيلي اليوم، إلى طَمْس الثقافة وتدمير الفكر من خلال اتّخاذ المكتبات كأهدافٍ عسكريةٍ لتدميرها ومحاولة هدم الفكر المُقاوِم، وفق محمود،
الذي أضاف بأن الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 دمَّر المُتاحف والمكتبات لمنع أو تأخير عملية نهوض العراق من جديد.
ويقول، بأن “تفجير الإرهابيين في شهر آذار/مارس من العام 2007م في شارع المُتنبّي في بغداد، أسفر عن تدمير جميع المكتبات التجارية الكبرى الواقعة في هذا الشارع، واحترقت مئات آلاف الكُتُب والمراجع، مضيفاً أنه “حتى في سوريا، تعرَّضت كنيسة الزيتون في مدينة حمص لحَرْق مكتبتها على يد تنظيم داعش”.
وشدَّد، على أنه مهما فعل المُحتلّ سواء الإسرائيلي أو غيره، من تدميرٍ للمكتبات، يبقى هذا التراث الفكري محفوراً في ذاكرة الناس، وفي ذاكرة المُفكّرين القادرين على إعادة إنتاجه. لكنه يؤكّد أن حَرْق الكُتُب يبقى سلاحاً أقوى من الأسلحة التقليدية في تدمير البنى الثقافية والمجتمعية، لما له من آثارٍ سلبيةٍ تُصيب عملية إعادة بناء الإنسان من جديد.
توثيق المعرفة رقمياً
“تؤدّي الرَقْمَنة دوراً في حماية أوعية المعلومات (الكُتُب والمكتبات وغيرها) من الحَرْق والتدمير والكوارث، إذ يتمّ عبرها تحويل المعلومات من شكلها التقليدي الحالي إلى شكلٍ رقمي سواء كانت هذه المعلومات كُتباً، دوريات صوَر أو بيانات نصيّة، أو ملفاً صوتياً، أو أيّ شكل آخر”، وفقاً للسمير.
ويوضح أن “تلك التقنية تُمكِّن من قراءة أوعية المعلومات السالِفة الذِكر من خلال أجهزة الحاسِب الآلي، أو أجهزة لوحيّة، وتوثيقها رقمياً”.
ويشير إلى أنه من خلال الرَقْمَنة يمكن حماية وحفظ مجموعات الكُتُب والمخطوطات من المخاطر والكوارث التي يمكن أن تتعرَّض لها، سواء عبر الحَرْق أو السرقة أو التدمير، وذلك من خلال إنشاء المكتبات الرقمية والمستودعات الرقمية، في مواقع إلكترونية، يمكن للقرّاء الولوج إليها والاطّلاع على مصادر المعلومات التي يحتاجونها.
* المصدر : الميادين نت-حبيب شحادة