السياسية:

يدرس زعماء الاتحاد الأوروبي تشكيل قوة عسكرية رغم مرور عقدين على فشل أول محاولة من هذا النوع، فما الجديد هذه المرة؟ وهل تبحث ألمانيا وفرنسا عن بديل لحلف الناتو؟

والقصة هنا لها أكثر من جانب والأهم أن التفكير في إنشاء جيش أوروبي موحد ليس جديداً، وهو ما يطرح كثيراً من التساؤلات، أهمها إذا ما كان تأسيس مثل هذا الجيش أو القوة أو الجناح العسكري ممكناً من الناحية العملية، خصوصاً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد بريكست.

من الدول التي تسعى لتأسيس جيش أوروبي؟

نقلت وكالة رويترز الأربعاء 5 مايو/أيار عن مسؤول رفيع في الاتحاد الأوروبي قوله إن 14 دولة أوروبية تتقدمها فرنسا وألمانيا تقدمت باقتراح لإنشاء قوة عسكرية للتدخل السريع بغرض نشرها بشكل مبكر في الأزمات الدولية.

ويدعو المقترح، بحسب المسؤول الذي لم تحدد رويترز هويته، إلى تأسيس كتيبة قوامها 5 آلاف جندي مدعومة بسفن وطائرات حربية بغرض مساعدة الحكومات الأجنبية الديمقراطية التي تكون بحاجة لدعم عسكري عاجل.

وعلى الرغم من أن فكرة إنشاء ما يمكن وصفه بالجناح العسكري للاتحاد الأوروبي ليست جديدة، وكانت هناك محاولة بالفعل قبل عشرين عاماً لكنها فشلت، إلا أن وزراء الدفاع في الاتحاد قد وضعوا المقترح بالفعل على أجندتهم خلال اجتماع دوري يعقد اليوم الخميس 6 مايو/أيار ويرأسه رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، بحسب تقرير رويترز.

أما الدول الأخرى التي تقدمت بالاقتراح، إلى جانب فرنسا وألمانيا، فهي اليونان وقبرص والنمسا وبلجيكا والتشيك وأيرلندا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا والبرتغال وإسبانيا وسلوفينيا.

لماذا تريد فرنسا جيشاً أوروبياً بعيداً عن الناتو؟

قبل الدخول إلى محاولة الإجابة عن هذا السؤال، ربما يكون مفيداً لتوضيح الصورة التوقف قليلاً عند المحاولة الأولى للاتحاد الأوروبي في هذا الشأن، إذ ناقش الاتحاد بالفعل فكرة تأسيس قوة عسكرية له عام 1999 وفي عام 2007 تم إنشاء نظام لمجموعات قتالية مسلحة تشكلت وقتها من 1500 عسكري بغرض الاستجابة الأوروبية للأزمات.

لكن تلك القوة العسكرية التابعة للاتحاد الأوروبي لم يتم تفعيلها على الإطلاق، والآن يمكن أن تمثل تلك المجموعات القتالية القاعدة الأساسية للقوة المقترح تأسيسها والمقترح أن يطلق عليها “قوة الدخول الأول”، كخطوة أولية نحو بناء قدرات دفاعية أوروبية أكثر تطوراً، بحسب تقرير رويترز.

وعلى الرغم من أن المسؤول الأوروبي الذي تحدث لرويترز ركز على رغبة بوريل في إقامة تلك القوة العسكرية، فإنه من الصعب تجاهل بصمة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الواضحة تماماً على هذا المقترح لأسباب متعددة.

بداية كان ماكرون قد أثار عاصفة من الانتقادات من أبرز أعضاء حلف الناتو، قبل أيام من اجتماع قادة الحلف للاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيسه، عندما صدرت عنه تصريحات تصف الحلف العسكري الأقوى على وجه الكوكب بأنه وصل لمرحلة “الموت السريري”، وهي تصريحات وصفها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب “بالمسيئة والمقرفة سياسياً”، بحسب تقرير لشبكة الإذاعة البريطانية BBC.

واللافت هنا أن ماكرون بنى منطقه، حسبما صرح مراراً وتكراراً انطلاقاً من أن أوروبا لا يمكنها أن تظل معتمدة على الولايات المتحدة للدفاع عن القارة العجوز، خصوصاً بعد وصول ترامب للبيت الأبيض ورغبة الرئيس الأمريكي السابق المعلنة في أن تدفع الدول الأوروبية وغيرها من حلفاء واشنطن مزيد من الأموال لتمويل حلف الناتو.

مشاكل ماكرون مع تركيا

قبل محاولة القراءة في واقعية خروج مشروع تأسيس قوة عسكرية فاعلة في الأزمات الدولية تحت تصرف الاتحاد الأوروبي، من المهم رصد الصورة الأكبر وراء رغبة مهندس الفكرة والداعي لها، أي ماكرون، على الرغم من أن المقترح الحالي تقدمت به 13 دولة أوروبية بجانب فرنسا، من بينها ألمانيا.

وفي هذا السياق ربما يكون كاشفاً ما نشره تقرير لشبكة “دويتش فيله” الألمانية حول ماكرون ورغبته في إنشاء قوة عسكرية أوروبية، فقد وصف أحد التقارير وعنوانه “إيمانويل ماكرون الابن المشاكس لحلف شمال الأطلسي (الناتو)” وصف الرئيس الفرنسي بكونه يبدو وكأنه “سياسي غير صبور، إذ يفضل الهرولة نحو المستقبل، واختيار عبارات قاسية والتقدم إلى الأمام.

“وعلى هذا النحو فاز كسياسيّ غير معروف بالانتخابات الرئاسية في فرنسا عام 2017، والآن يتطلع إلى تحقيق ثورة في سياسة الدفاع الأوروبية، لأنه وحسب ماكرون لا يمكن التعويل على الأمريكيين كضامن للأمن الأطلسي الأوروبي.

“وأوصى ماكرون بأنه يجب على الأوروبيين أخذ الدفاع بأيديهم وإلا سيهددهم التهميش الجيوسياسي. لكن ماكرون بذلك أثار غضب الشركاء الأوروبيين. “ويُتهم بأنه أخذ الحق في التحدث لصالح أوروبا، إلا أنه لم يتحدث مع أوروبا”، كما قالت خبيرة شؤون الدفاع كلاوديا مايور.

“وفي بولندا ودول البلطيق يشعر الناس مباشرة بالتهديد من تصورات ماكرون. فهناك يُعتبر حلف الناتو هو الضمانة الوحيدة ضد الجارة الكبيرة المهددة لهم روسيا. وفي البداية أعلن ماكرون عن نيته تطبيع العلاقات مع روسيا. والآن تظهر كلماته “خطيرة”، كما يقول رئيس الوزراء البولندي”.

ويمكن القول إن هذه الصورة بشأن ماكرون وهروبه الدائم للأمام، قفزاً على مشاكل الحاضر وتعقيداته، هي الدافع الأساسي وراء حلمه في تشكيل قوة عسكرية تخضع للاتحاد الأوروبي بسبب كون تركيا تمثل العضو الأهم على الإطلاق – بعد الولايات المتحدة – في حلف الناتو، وعداء ماكرون لتركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان ليس سراً أو أمراً يحتمل التأويل.

ما مدى واقعية تأسيس “جيش أوروبي”؟

في البداية من المهم ذكر حقيقة أن الاتحاد الأوروبي قد وضع بالفعل في ميزانية هذا العام بنداً للتمويل المشترك لتطوير الأسلحة بين أعضائه وهي الخطوة الأولية الدافعة لصياغة اتفاق عسكري بين الأعضاء بحلول عام 2022 وذلك بناء على دراسة فصلت الضعف العسكري للاتحاد الأوروبي تم إعدادها العام الماضي 2020.

فالاتحاد الأوروبي يمثل بالفعل قوة اقتصادية كبيرة هي منطقة اليورو استطاع من خلالها أن يمتلك “قوة ناعمة” لها تأثيرها في مجالي التجارة والمساعدات، لكنه لا يمتلك القدرة على القيام بمهمات عسكرية تحت مظلته حول العالم، بحسب تقرير لرويترز.

وبالطبع أدت رئاسة ترامب إلى زعزعة ثقة حلفاء واشنطن بشكل عام، وليس الأوروبيين فقط، في مدى التزام الولايات المتحدة باتفاقياتها العسكرية والتجارية معهم، وهو ما أثار المخاوف وجعل الحلفاء يفكرون في كيفية الاعتماد على أنفسهم في القضايا الدفاعية والعسكرية، وهذا ما تسعى الإدارة الجديدة برئاسة جو بايدن إلى إصلاحه، والواضح أنها تسير على الطريق الصحيح رغم صعوبة المهمة.

والعامل الآخر في هذا السياق هو التغيير الجذري الذي يشهده المسرح السياسي الدولي بشكل عام، وفي أوروبا بشكل خاص، في ظل النمو الكبير لتيار اليمين الشعبوي والنزعات القومية والتي نتج عنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من خلال “بريكست”، وتوجد في فرنسا نفسها حركة مشابهة “فريكست” وإن كانت أقل زخماً.

الجيش التركي ثاني أكبر الجيوش بحلف الناتو

وهذا العامل بالتحديد يجعل من فكرة وجود جيش أوروبي واحد بقيادة واحدة ورؤية منسقة بشأن الأزمات داخل وخارج القارة العجوز مجرد فكرة تبدو وردية، لكن تنفيذها على الأرض أمر أقرب للمستحيل، بحسب المراقبين.

وهذا الطرح جاء بشكل واضح ومباشر في أكثر من دراسة وتقرير إعلامي، منه على سبيل المثال تقرير نشرة موقع neweurope.eu في يوليو/تموز 2020 بعنوان “لماذا تأسيس قوات مسلحة أوروبية ليس ممكناً؟”، خلص إلى أن تنفيذ الفكرة أمر معقد ومكلف مالياً ومضيعة للوقت وفي النهاية لا معنى له من الأساس.

وكانت نقطة الارتكاز في هذا الجدل هو أن أوروبا بالفعل لديها تحالف عسكري قائم وناجح وفعال، حيث إن غالبية دول القارة أعضاء في حلف الناتو، كما أن التدريبات العسكرية المشتركة والتنسيق الأمني والعسكري بين الأعضاء لمواجهة التهديدات المشتركة قائم بالفعل.

والنقطة الأخرى هي أنه في حالة إقدام روسيا على محاولة غزو أي من جمهورياتها السابقة في شرق أوروبا -مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا على سبيل المثال- فإن دول أوروبا الغربية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا ستواجه صعوبة في اتخاذ قرار الدفاع عن تلك الدول والمخاطرة في دخول مواجهة نووية مع موسكو، وهذ التردد لن يختفي لمجرد أن تلك الدول نجحت في تأسيس قوة عسكرية أوروبية بعيداً عن حلف الناتو.

الخلاصة إذاً هي أن مقترح تأسيس جيش أوروبي موحد أو قوة عسكرية أوروبية يبدو وكأنه حلم للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يسعى من خلاله إلى تحييد حلف الناتو في صراع باريس وأنقرة، في ظل الثقل التركي داخل الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة، لكن الأرجح أن ذلك الأمر سيكون مجرد طموح آخر من طموحات الرئيس الفرنسي التي لم تتحقق، كمهلة تشكيل حكومة في لبنان، على سبيل المثال.

عربي بوست