السياسية:

مسلسل “إنها خطيئة” يحكي قصة أزمة الإيدز في المملكة المتحدة في الثمانينيات من القرن الماضي. ويرى الصحفي جاك كينغ أن مراجعة الأعمال الدرامية التي تناولت فيروس الإيدز لا تزال تحظى بأهمية كبيرة في الوقت الراهن.

في إحدى محلات بيع الصحف في عام 1983، وقف شاب عشريني يقلب صفحات المجلات. ويقع هذا المحل في إحدى ضواحي أكسفورد على بُعد نصف ميل من كلية ورشستر بجامعة أكسفورد، حيث درس هذا الشاب على مدى العامين الماضيين. وأبدى الشاب اهتماما مصطنعا ببعض الدوريات والمجلات. لكنه لم يأت إلى هذا المحل إلا لغرض واحد، وهو شراء العدد الأخير من مجلة “هيم” للمثليين، التي تصدر شهريا. ولا يخفى على أحد سبب سرية مهمته.

وما لبث الشاب أن دفع ثمن المجلة للبائع حتى خرج مسرعا واستند إلى جدار في هذا اليوم المشمس الحار من شهر يونيو/حزيران، ثم جاب الشوارع بحثا عن فرصة ليختلي بغنيمته التي لم يجرؤ على تصفحها في المحل. وعندما أصبح الشاطئ خاليا، استطاع أن يمعن النظر في الغلاف من رسم الفنان المثلي أوليفر فراي، الذي يُظهر صورة أنبوب اختبار يغلي بداخله رجال وبصحبتهم لافتة تحذيرية تقول: “الفزع من مؤامرة الموت جراء مرض الإيدز”.

وتحدثت إلى الكاتب راسيل ديفيز عن هذا المشهد من شقته في كارديف، عبر تطبيق زوم. وكما هو متوقع من كاتب سيناريو بعض أفضل المسلسلات التليفزيونية في بريطانيا، مثل “ييرز أند ييرز” (سنوات وسنوات) و”فضيحة إنجليزية صرف” الذي رشح لجائزة بافتا، والإنتاج الجديد لمسلسل “دكتور هو” الذي حاز على جائزة بافتا، فإن ديفيز رسم صورة مفعمة بالتفاصيل.

واستوحى ديفيز قصة المسلسل الأخير “إنها خطيئة” من هذه اللحظة من سنوات شبابه. ويقول ديفيز: “وقفت حينها وقلت لنفسي ‘إذا الأمر حقيقي’، وبعد مرور نحو 40 عاما أكتب هذا المسلسل بأكمله حول هذه اللحظة في شوارع أكسفورد”.

ويسلط المسلسل الضوء على خمسة شباب، أربعة مثليين وفتاة يعيشون معا في “بينك بالاس”، وهو منزل رديء ومتهالك في لندن. وتبدأ أحداث المسلسل في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، حين هرب هؤلاء الشباب من بلداتهم الصغيرة إلى لندن، حيث كانوا يقيمون الحفلات يوميا وكانوا يفرطون في ممارسة الجنس كإفراطهم في شرب الخمر. لكن كارثة طبية كانت تتربص بهم لم يعرفوا عنها شيئا آنذاك، وهي مرض نقص المناعة المكتسبة “الإيدز”.

الأعمال الدرامية التي تناولت الإيدز

تناولت أعمال درامية عديدة مرض الإيدز، لكن الولايات المتحدة، التي كانت بؤرة الفيروس في الثمانينيات من القرن الماضي، ساهمت بالنصيب الأكبر منها. لكن القليل من كتاب السيناريو تناولوا انتشار المرض في المجتمع البريطاني كما في مسلسل “إنها خطيئة”. وثمة أوجه تشابه واضحة بين المسلسل البريطاني وبين الأعمال الدرامية الأمريكية السابقة، مثل فيلم “رفيق قديم” عام 1989 للمخرج نورمان رينيه، ومسلسل “1985” في عام 2018 للمخرج يين تان.

لكن مسلسل ديفيز يلوح فيه شبح النهاية الحتمية المأساوية. فنحن نراقب الشباب الخمسة يعيشون حياتهم ويخطئون ويشبعون رغباتهم الحسية التي تملكتهم في مطلع العشرينيات من عمرهم، شأنهم كشأن أبطال أي عمل درامي عن الشباب. لكن الفرق أن الموت يتربص بهم، ويهددهم في كل لحظة. فهذا الفيروس لا يتبع نمطا محددا في إصابة ضحاياه، فقد يموت شخص بعد ممارسة جنس مع شريك حياة واحد، بينما يفاجأ آخرون بأن نتيجة الفحص سلبية، رغم أنهم مارسوا الجنس مع الكثيرين في الحانات.

كان ريتشي (الذي أدى دوره أولي أكسندر) الذي يجسد انغماس الشباب المثلي في بداية الأزمة في المتع والملذات، قد ضاق ذرعا بالجلبة والضجيج حول مرض الإيدز، ورفض الاستسلام للخوف من المرض والتخلي عن ممارسة الجنس العشوائي، الذي يرى أنه رمز لحريته. وتكشف أحداث المسلسل عن التغيرات التي طرأت على شخصيات الشباب الخمسة على مدى عقد من الزمن، وكيف أصبحت حيويتهم مغلفة بطبقة من الجليد الكثيف، الذي قد يذيبه أحيانا كوب من الشاي بالحليب وأحضان المواساة.

وعلى الرغم من أن مسلسل “إنها خطيئة” هو أول مسلسل بريطاني يتناول أزمة الإيدز على مستوى المجتمع، فهناك أعمال درامية عديدة تناولت فيروس الإيدز منذ أواخر الثمانينيات، مثل مسلسل “التلامس الحميمي”، في عام 1987، الذي يتناول تبعات تشخيص رجل وزوجته بمرض الإيدز.

لكن أول عمل درامي يتطرق لموضوع فيروس الإيدز، كان مسلسل “إيست إندرز” البريطاني الشهير. ويقول ديفيز: “وجه المسلسل المشاهد للتحيز ضد كولين المثلي (الذي أدى دوره مايكل كاشمان)، وعندما مَرِض، كانت بريطانيا بأكملها تتمنى أن يصاب بفيروس الإيدز”. وفي السنة السابقة شارك كولين في أول قبلة بين مثليين في المسلسلات البريطانية.

وكانت مسلسلات، مثل إيست إيندرز، تجتذب عددا هائلا من المتابعين في هذا الوقت، ويقول ديفيز: “كانت أثرا ثقافيا أقوى بمراحل آنذاك، وكانت تشكل ردود فعل الناس”.

وعندما أصيب مارك فاولر، المتزوج من امرأة، بالفيروس في حلقات لاحقة من المسلسل، لاحقته نظرات الاستهجان، ولا سيما من بيغي ميتشيل المرأة المتسلطة، لكنهما تصالحا في النهاية. ويقول ديفيز: “إن اعترافها بأنها كانت مخطئة ينقل رسالة قوية للجماهير. وفي هذا الوقت، تعامل المسلسل بحكمة مع أزمة الإيدز، بنقل رسالة مفادها أن الفيروس لا يصيب المثليين فقط، بل إن مغايري الجنس عرضة أيضا للإصابة به”.

وكان شبح الفيروس حاضرا في أعمال أخرى سابقة لديفيس، مثل مسلسل “غريب كالبشر”، في أواخر التسعينيات، الذي يدور حول فيل الذي توفي إثر تعاطيه جرعة زائدة من المخدرات. وفي هذا المسلسل كان جنس المثليين يؤدي إلى الموت. وفي عام 2015، يركز فيلم “الخيار” على مجموعة من المثليين المسنين يستعيدون ذكريات مخاوف مرض الإيدز التي كانت تلاحق الجيل الذي عاصر ذروة الأزمة.

وتجسد مقولة كليف (كون أونيل) في جنازة صديقه الذي قتل بعد ممارسة الجنس مع رجل كان يخفي مثليته، مدى اعتيادهم على موت المثليين في هذه الفترة، حين قال: “لقد ظننت أن جنازات الشباب لم يعد لها وجود، اعتقدت أننا تخلصنا منها”.

هل هناك جديد؟

قد توحى الأعمال الدرامية الضخمة عن الإيدز، مثل “قلب طبيعي” أو “ملائكة أمريكا” بأن الوباء نال نصيبا وافرا من المعالجة الدرامية ولم يعد هناك أي جديد يمكن إضافته. ويقول ديفيز: “إن الكتّاب المثليين، ولا يشترط بالمناسبة أن تكون مثليا لتكتب عن فيروس الإيدز، يتهيبون من ضخامة هذين العملين”.

ويشير إلى أنه يجري التخطيط لعرض “قلب طبيعي” في المسرح الوطني بلندن. ويقول إن روعة هذين العملين قد تبرر تأخر ظهور عمل يتناول الأزمة في بريطانيا. ويقول: “كنت أحاول إقناع المنتجين بمسلسل “إنها خطيئة”، وهي مهمة صعبة لأنك تطلب ملايين الجنيهات”.

ويقول ديفيز: “لقد تابعت معظم الأعمال الدرامية عن الإيدز، وربما شاهدتها كلها، لأنني مهتم بها، فهذه حياتي. وقد أكتب لك مقالا عن مدى التوافق بين مسلسل “إنها خطيئة” وبين الأعمال الدرامية السابقة”. مشيرا إلى أنه سرد قصصا وموضوعات في المسلسل شعر أنها لم تسرد من قبل.

فالتركيز على أمريكا الشمالية في الأعمال الدرامية التي تناولت الإيدز أمر مفهوم، بالنظر إلى أن أعلى معدل إصابات ووفيات بفيروس الإيدز في الغرب سُجل في الولايات المتحدة. لكن هذا لا يمنع أن كل دولة ومنطقة في العالم لديها قصص خاصة عن المرض ينبغي سردها.

قصص من حول العالم

ثمة أعمال درامية عديدة عن الإيدز على مستوى أوروبا، مثل الفيلم الفرنسي المؤثر “120 نبضة في الدقيقة”، الذي يتناول قصة فرع جماعة “آكت أب” في باريس، وهي جماعة أمريكية كانت تهدف لاتخاذ خطوات لإنهاء أزمة الإيدز وكان مخرج الفيلم روبين كامبيلو عضوا فيها. ويتناقش النشطاء في أجزاء من الفيلم حول جدوى الاحتجاجات، مما يضفي على الفيلم طابع “سينما الحقيقية” التي تتميز بالواقعية. ولم يخل الفيلم من الخوف من حتمية الإصابة بالمرض.

وتدور أحداث فيلم “صيف عام 1985” للمخرج فرانسوا أوزون حول ديفيد الذي يمضي إجازة صيف مع أليكس، ويموت ديفيس بسبب رفضه الالتزام بشريك حياة واحد. فقد مارس ديفيد الجنس مع شخص آخر، وبعد شجار مع أليكس، انطلق ديفيد بمركبته البخارية مسرعا وتوفي إثر اصابته في حادث مروري. ويتخذ الفيلم منحى عبثيا حين يرقص أليكس على قبر ديفيد بينما تظهر على وجهه نشوة الانتقام والغضب.

وفي فيلم “كل شيء يخص أمي”، الإسباني للمخرج بيدرو ألمودوفار، الحائز على جائزة أوسكار، يصيب الفيروس المثليين ومغايري الجنس على السواء.

وثمة قصص من مناطق أخرى من العالم تناولت مرض الإيدز من منظور مختلف تماما. ففي شرق أفريقيا وجنوبها، التي تعد البؤرة الجديدة لفيروس الإيدز، انتشر الفيروس بين السكان بغض النظر عن ميولهم الجنسية. وتضم هذه المنطقة أكثر من نصف المصابين حاليا بفيروس الإيدز على مستوى العالم. ومن أبرز الأفلام التي تناولت هذه الأزمة المستديمة “ياسترداي” (أمس)، حول قصة أم شابه تدعى “ياسترداي” شخصت بالإيدز بعد معاناة طويلة مع المرض.

وبحسب مؤسسة “أفيرت” الخيرية المعنية بمكافحة فيروس الإيدز، فإن نحو واحد من كل خمسة أشخاص في جنوب أفريقيا مصاب الإيدز.

وسلط فيلم “نار في الدماء” الوثائقي عام 2013 للمخرج ديلان موهان غراي، الضوء على الممارسات الاستغلالية لشركات الأدوية التي حرمت الدول والأفراد الفقراء من العقاقير المضادة للفيروسات، والتي كان من الممكن أن تنقذ حياة الكثيرين. ويركز الفيلم على أن الفيروس لا يزال يحصد حياة الملايين في الدول النامية رغم وجود العقاقير المضادة له.

أما فيلم “تأثير لازاروس” الوثائقي عام 2010، فيتناول مدى قدرة العقاقير المضادة للفيروسات القهقرية على إنقاذ أفراد مجتمع صغير في زامبيا من الموت. إذ نجح نشطاء وعاملون بالمجال الطبي في توفيرها للسكان بعد جهود مضنية. ولم تكد تمر أسابيع حتى استعاد المصابون الذين أنهكهم المرض عافيتهم.

وكثيرا ما نبحث في الماضي عن قصص المثليين ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسيا، لأن هذه القصص الخيالية والرومانسية لم تعد ترى النور بسبب التحيزات، وهذا ينطبق على مرض الإيدز، رغم أنه لا يزال هناك الكثير من القصص من مختلف أنحاء العالم التي لم ترو بعد عن هذه الأزمة.

ويقول ديفيز: “عندما نستمع لأخبار الفيروس الجديد، يقول الناس في مثل سني، إنه الوباء الثاني في المملكة المتحدة في السنوات الأخيرة، وليس الأول. رغم أن الوباء الأول نادرا ما يشار إليه عند التحدث عن وباء كورونا”.

فقد حصد مرض الإيدز أرواح 33 مليون شخص حول العالم، ولا يزال يقتل المزيد من الضحايا، لكن الناس يقارنون دائما بين فيروس كورونا وبين وباء إنفلونزا 1918 منذ أكثر من قرن.

ويفسر ديفيز تجاهل فيروس الإيدز بالقول: “نفس المشكلة تتكرر الآن، أي الخزي والخوف من التحدث عن الجنس والطريقة التي يتنقل بها المرض. وهذا ما أدى إلى وفاة الكثير من ضحايا المرض في الثمانينيات، ولا يزال الخوف والخجل يمنعان الناس من التحدث الآن”.
وكالات