القصة وراء الحرب الأهلية الدائرة في اليمن
سلط مقتل 31 مدنيا في اليمن إثر غارة جوية شنتها قوى العدوان التي تقودها المملكة العربية السعودية الضوء على حالة الجمود التي خيمت على مجريات الصراع, ومع ذلك، فإن جذور الحرب الأهلية يثير العديد والعديد من التساؤلات, حيث أن فهم مجرياتها يتطلب التفافاً عبر أروقة التاريخ اليمني، وذلك من أجل الحفاظ على تحليل يركز أكثر من اللازم على الخلافات الفقهية بين الأطراف المعنية.
بقلم: بيير إيف جورج
(مدونة صحيفة” مديا بارت- blogs.mediapart.fr” الفرنسية, ترجمة: أسماء بجاش-سبأ)
على الرغم مما قد توحي به الطبيعة الإقليمية للصراع الدائر في اليمن، بعد أن استولت الرياض وطهران على الحرب لتحريك صدامهما من أجل فرض الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه لا يمكن تفسيره على أساس المعارضة بين السنة والشيعة.
يعتبر رواد فكر المناطق الشمالية من اليمن والمعروفين باسم “الحوثيون” والذين يتلقون الدعم من قبل إيران في حربهم ضد الحكومة اليمنية التي تتلقى الدعم بدورها من السعودية منذ العام 2004، هم من أتباع المذهب الزيدي.
ومع ذلك، حتى لو كانت هذه الطائفة فرعاً من فروع التشيع، إلا أنها تختلف عن تلك التي تمارس في إيران, فهي قريبة جداً في معتقداتها إلى المذهب السنّي، لدرجة أنها تُعتبر فرعها الخامس.
إن التنافس بين المذهب الشيعي الزيدي وبين المذهب السني، إذا كان موجوداً بالفعل، وهو موضع شك ليس من الناحية الدينية بقدر ما هو من الناحية التاريخية, لذلك من الواجب علينا، من أجل فهم حيثيات الصراع على الصعيد الوطني، أن نتفقه في الكيفية التي أثر فيها تاريخ اليمن على الحرب الأهلية بين الحوثيين والحكومة اليمنية، وبالتالي دراسة أصل هذه الحركة الفكرية .
تاريخياً: تم تقسيم اليمن إلى دولتين مستقلتين، إحداهما في الشمال والثانية في الجنوب, وفي هذا المقام, دعونا نسلط الضوء على دولة اليمن في المناطق الشمالية:
قررت الإمبراطورية العثمانية منذ العام 1849، احتلال الجزء الشمالي من اليمن الحالي، وذلك لمواجهة توسعية بريطانيا العظمى، التي كانت قد استعمرت مدينة عدن الساحلية الواقعة في المناطق الجنوبية قبل عشر سنوات، وبالتالي يمكنها توسيع أراضيها نحو المناطق الشمالية.
كان الشعب اليمني معادي في الأصل للإمبراطورية العثمانية منذ وصولها، حيث أمتاز هذا الشعب بتصلب إلى حد كبير منذ العام 1878، عندما قرر السلطان العثماني إقامة نظام استبدادي ووحدة إسلامية سنية:
ففي الواقع، كان اليمن الشمالي، وبشكل أكثر تحديداً مرتفعات صعدة الواقعة على الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية الحالية، هي منبع للشيعة الزيدية، وبالتالي لا يمكن إلا أن يتمرد على هذه السياسة التي يعتبرها تمييز من حيث طاعتها.
وفي نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر، لم تكن محافظة صعدة فقط، بل كان كل اليمن الشمالي هي التي حاربت المحتل وحصلت على الاستقلال في عام 1918.
لذلك، يمكن لليمن الشمالي أن يؤسس نظاماً يكون في نهاية المطاف وفياً ومخلصاً لغالبية الطاعة له، أي الإمامة، وهو نظام يجمع فيه الإمام بين الوظائف الروحية والزمنية، وبالتالي فهو زعيم ديني وسياسي للمجتمع, وهنا نجد المذهب الشيعي الذي يعطي الإمام حقاً شبه مطلق, وبالتالي, تتجسد الإمامة في النظام الملكي، الملك هو الإمام الذي نشأ من رماد الوجود العثماني، ويسمى المملكة المتوكليه في اليمن.
استمرت هذه المملكة حتى العام 1962, وهو تاريخ قيام الثورة اليمنية في الشمال والتي أطلقها الجمهوريون -السنة – ضد النظام الملكي, حيث تمكنوا من إسقاط الإمامة، واستبدالها بالنظام الجمهوري تحت مسمى الجمهورية العربية اليمنية.
ومنذ مجيء الجمهورية، استفاد شمال اليمن من سياسة التنمية الاقتصادية من أجل انتشال الأراضي من حالة عدم الاستقرار الاقتصادي.
ومع ذلك، فإن جزءاً كاملاً من البلد كان مستبعداً من عملية التحديث هذه وليس لديه إي خطط إصلاحية, فهذه هي الأراضي التي دعمت النظام الملكي خلال ثورة العام 1962.
ومع ذلك، فهذه مناطق مأهولة بالسكان، حيث كما رأينا في شمال اليمن عدد كبير من السكان الشيعة الذين أرادوا حماية النظام الملكي الذي جسد الإمام والعقيدة السياسية لعقيدته ضد أولئك الذين أراد الإطاحة به (دعونا نتذكر مرة أخرى أن المملكة المتوكلية في اليمن كانت من اتباع المذهب الزيدي).
وهذا هو الحال بصفة خاصة في محافظة صعدة، التي تم ذكرها أعلاه، حيث تحتضن وحدها جميع السكان الزيديين في اليمن, وبسبب ولائها للمملكة المتوكلية اليمنية، فإن هذه المحافظة لم تخرج قط من هشاشتها الاقتصادية.
وعلاوة على ذلك، فإن ثورة 26 من سبتمبر 1962, ومقاومة الزيديين لعملية التحول الديمقراطي التي بدأها الجمهوريون دفعت الرأي اليمني إلى التشكيك في الثقافة الشيعية وربطها بالرجعيه والملكية التي عفا عليها الزمن.
وهكذا، فبالإضافة إلى الاستبعاد الاقتصادي، فإن الزيديين المنضوين في محافظة صعدة هم أيضاً ضحايا للإقصاء الديني والإيديولوجي, وآنذاك، فإن التيار أخذ في الانخفاض والحاجة إلى تحديثه أصبحت أكثر وضوحا.
بدأ هذا التنشيط الثقافي الذي يحتاج إليه الزيديون بشدة في ثمانينيات القرن الماضي، وتحقق في العام 1990، عندما تم توحيد شطري اليمن الشمالي والمعروف باسم الجمهورية العربية اليمنية واليمن الجنوبي المعروف باسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
ومن هنا, رأت الجمهورية اليمنية النور لأول مرة, حيث ترأسها رئيس الجمهورية العربية اليمنية منذ العام 1978، علي عبد الله صالح، وهو سياسي من المطيعين لشيعة الزيدية أيضا.
غير أنه لا يظهر اعتقاده، نظراً للعار الذي سقط فيه التيار منذ العام 1962، وعملية الانفتاح والتدويل التي خضعت لها البلد منذ العام نفسه، والتي بموجبها فضل المذهب السني على الشيعي، حيث يُنظر إلى هذه الأخيرة على أنها أكثر شمولية وعالمية.
لكن تجدد الزيدية، وهو شرط أساسي لإعادة تأهيلها في نظر الرأي العام، أمرُ مسلم به.
في الواقع، أدت إعادة توحيد شطري اليمن في العام 1990 إلى ولادة جمهورية موحدة وإنشاء برلمان وطني، وبالتالي قرر أنصار الزيدية من باب أولى، إنشاء حزب سياسي أطلاق عليه حزب الحق.
وعلاوة على ذلك، فإن العلماء الزيديين -العلماء اللاهوتيين للتشريع الإسلامي- هم من يكتبون البيان الذي من المفترض أن يعمل على تنظيم إعادة صياغة عقيدة طاعتهم والبدء في تنشيطها الثقافي.
ومن بين التغييرات التي تم إجراؤها مع هذا البيان، هناك خرق لمبدأ الإمامة والنظام السياسي الشيعي: لم يعد المذهب الزيدي يؤيد منح المناصب السياسية بشكلٍ إجباري للإمام، الذي يجب أن يكون راضياً عن أن يكون زعيماً روحياً للطائفة: والهدف هنا هو السماح للزيدية لاستيعاب السلطة الزمنية المستقلة بشكل نهائي, حيث يفعل التشيع الاثنى عشرية ذلك بشكل مؤقت فقط، في الوقت الذي يحتجب فيه “الإمام الخفي”, وبالتالي إعطاء الفرصة لهذه الطاعة للاعتراف بسلطة زعيم لن يكون إماماً، هنا رئيس الجمهورية “علي عبد الله صالح” دون خيانة بعضهم البعض.
حزب الحق، وكذلك بيان العلماء، يعادلان التطابق بين الزيدية والنظام الجمهوري، لذا فهو بمثابة تحديث.
لو كان الصراع الحالي في اليمن مجرد صداماً دينياً بين السنة والشيعة، لكان من الممكن أن تبدأ أسباب أقل تحديداً بالنظر إلى التاريخ المحوري للعام 1990, عندما أعاد علماء الدين الزيدية تأسيس عقيدة هذا الفرع من التشيع لجعله متوافقا مع الحداثة المحيطة بهم والتي تجسدت بعد ذلك في الجمهورية ولكن أيضا في المذهب السني.
ومنذ ذلك الحين، فقدت الزيدية النقاط القليلة التي لا تزال بعيدة عنه عن أهل السنة, بما فيه الكفاية لتبرير المواجهة المسلحة بين أتباعهم على أساس خلافاتهم الفقهية.
ولذلك فمن الواضح أنهم قد لا تكون قادرة على تفسير الصراع من تلقاء نفسها, لأن طابع الطاعة هو أكثر مرونة مما قد يعتقد المرء، وبالتالي يمكن تغيير مذاهبهم إذا كانت عائقا أمام التطورات أو الازدهار.
وكدليل النهائي: حدث الصراع بين الزيديين والسنة بعد الإصلاح العقائدي للفرع الشيعي, ولأن الصراع المذكور لا يقوم فقط على العقيدة التي تغيرت قبل اندلاعها، ولكن أيضا على التاريخ، وفي هذه الحالة التي تتسم بعدم الاستقرار الاقتصادي الذي لم يفرج عنه سكان محافظة صعدة أبداً, أختار سكان صعدة دعم للنظام الملكي.
ولأن صعدة هي المعقل الوحيد للزيدية في اليمن، فإنه صراعاً ذا طبيعة اقتصادية، من خلال جمعية ليست بالضرورة واضحة، قد تجسد في العداء الديني: كما أن استبعاد سكان صعدة هو أيضا استبعاد للزيود وبالتالي فإن هذه الاعتبارات المادية هي التي رفعت من وتيرة الصراع بين الشيعة والسنة في اليمن.
فعلى سبيل المثال، قرر أحد أعضاء البرلمان اليمني من حزب الحق، حسين بدر الدين الحوثي في العام 1997، الانفصال عن الحكومة المركزية جراء تقاعس الحكومة عن إخراج صعدة من وضعه الاقتصادي المتردي، وفي المقابل تم رفض منح المقاطعة وضع الحكم الذاتي.
ومن هنا تم تشكيل منتدى الشباب المؤمن، وهو منظمة دينية سلمية تم تأسيسها في العام 1992، وهي الجناح المسلح الذي يحمل اسمه الآن: الحوثيون.
هذا البرلماني، على الرغم من كونه عضواً في حزب “الحق” كان هدفه في البداية هو احتضان حركة الحداثة التي تشهدها البلد، فقد عمل على انتقاد بعض النقاط في الحركة نفسها، خاصة فيما يخص التقارب اليمني السني ومع الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن هذا المنطلق، فإن 17 يناير 2002, يعتبر بمثابة موعداً مهماً جداً، وهو اليوم الذي ألقى فيه الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي محاضرة يدعو فيها أنصاره إلى “محاربة الهيمنة الأمريكية على العالم العربي والإسلامي”.
هذا هو التطرف النهائي في خطابه، وهو الخطاب الذي تحرص حكومة علي عبد الله صالح على عدم تصنيفه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ضمن القائمة السوداء لما يسمى بالدول “الإرهابية” حتى لا يتم نبذهم من الساحة الدولية ولا يمكن الموافقة عليها.
كان اغتيال الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي في 10 سبتمبر 2004, وسيلة للحكومة لوقف فكر الشهيد القائد الذين قاده بالفعل الحوثيين، ولكن حدث تأثير عكسي، واندلعت ما يسمى بحرب “صعدة” في نفس العام بين قوات الحكومية والحوثي.
وأخيراً، خلال هذه الحرب، يستخدم صالح سلاحاً ضد الحوثيين يمكن أن يقودنا إلى التأكيد على أن التاريخ يلقي بثقله على مزاعم المتمردين وعلى الحرب الأهلية التي لا يزال اليمن يعيشها حتى اليوم, باعتبار الحركة الحوثية حالياً أحد اللاعبين الرئيسيين.
ففي الواقع، يلجأ صالح إلى الدعاية، ويصف باستمرار مشروع الحوثيين ليس الرغبة في رفع المستوى الاقتصادي لمحافظة صعدة، بل إحياء النظام الملكي الذي كانت عليه في الفترة ما قبل العام 1962، من أجل تشويه سمعتهم في نظر الرأي العام اليمني.
ما نراه هنا هو أن تجربتهم السياسية السابقة تشكل عبئاً ثقيلاً تقريباً على الحوثيين، على الرغم من أنهم قاموا بتحديث طاعتهم، مما تسبب في فقدانه ما يسمى بعبادته تجاه الملوك ومنح حق مطلق للإمام، إلا أنهم لا يزالون مرتبطين باعتبارات رجعية يرغبون في استعادتها للمملكة المتوكلية من اليمن، وبالتالي إسقاط الجمهورية.
وفي الختام، لا بد من القول إنه من المثير للاهتمام التأكيد على البعد التاريخي للصراع في اليمن، حيث لا يمكن اختزال التنافس بين الزيديين والسنة الذي يقوم عليه الصراع إلى اختلاف عقائدي.
أولاً: ليست الطوائف متباعدة إلى هذا الحد، حيث تعتبر الزيدية الفرع الخامس للمذهب السني، ومن ثم أصبحت الزيدية أقرب إلى السنّة من خلال تنشيطها الثقافي في العام 1990.
ثانيا: ومن الضروري أيضاً إشراك ثورة سبتمبر 1962، التي أطيح من خلالها بالملكيين وحرموا من دعم السياسة التنموية الاقتصادية التي أعقبت مجيء الجمهورية، لفهم فكر الحوثيين فيما يخص الحرب.
ثالثاً: العار الذي سقطت فيه الطاعة الزيدية بعد تلك الثورة نفسها وسجنها في ملكية عفا عليها الزمن، وهي مسألة أقل إيماناً في حد ذاتها من الطريقة التي صورها بها خصومها، علي عبد الله صالح في حرب صعدة في العام 2004.
* المقال تم ترجمته حرفياً من المصدر وبالضرورة لا يعبر عن رأي الموقع.