(صحيفة “التلغراف” البريطانية- ترجمة: انيسة معيض- سبأ)

المولود الذي ولد حديثاً كان يبكي, على الرغم من الكلمات اللطيفة للنساء اللواتي تجمعن حوله، ترددت صرخاته في ارجا العيادة, عندما انحنى الطبيب نحو الصبي وتمت عملية الختان, التي تضفي على حياته الجديدة التقاليد القديمة وتاريخ عائلته والمجتمع.

ففي الوقت الذي كان فيه الطفل الرضيع موضع ترحيب في الحياة، كان في نفس المكان ولكن على بعد امتار قليلة  يوجد الطفل “سادر” البالغ من العمر 18 شهرا يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة, فقد كانت عيناه براقة وكبيرة ولكن يعلو جلده تموجات كبيرة عند القفص الصدري.

يزن 5.9 كيلوجرام فقط (13 رطلاً)، فقد كان سادر يتضور جوعا, حيث تراجعت فرص حياته, فهو واحداً من ضمن خمسة أطفال توقع الطبيب موتهم قريباً بسبب سوء التغذية, وفي الأسبوع الماضي, توفي طفل اخر, حيث كان والديه عاجزين.

والد سادر، مثله مثل الجميع في  مدينة الضباب، وهي مدينة تقع على الساحل الغربي لليمن، يعمل في صيد السمك, فقبل الحرب التي بدأت بلا هوادة في عام 2015, كان يعيش حياة طيبة وكانت الحياة جيدة له ولجيرانه, فقد كان الأطفال يذهبون إلى المدرسة بعد أن يتناول طعام الإفطار ومرتدين ملابس الجيدة؛ كان الناس يتلقون العلاج المناسب في حال اصابهم المرض, وكانت المنازل مشرقة ومتألقة, والشوارع مليئة بالمطاعم والمحلات التجارية, لكن اليوم  مدينة الضباب دمرت والأمراض منتشرة وكسب ما يكفي من الطعام كل يوم يعد تحد صعب.

ربما تكون القنابل قد توقفت، لكن وبينما يحاول الناس إنقاذ الأرواح، فإنهم يصارعون بين “العزيمة واليأس”و “الأمل والهزيمة”.

مع بداية العام الجديد، يحدو الجميع التفاؤل بأن السلام يلوح في الأفق وأن واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم قد تقترب من النهاية قريباً.

تعود أصول الحرب إلى الربيع العربي عام 2011, عندما تمت الإطاحة بالرئيس علي عبد الله صالح – الذي كان في السلطة لمدة 33 عاماُ – من قبل المتظاهرين.

كانت هناك آمال بأن يكون هذا فجراُ جديداُ، ولكن الحوثيين القادمون من شمال البلد والذين لطالما عانوا من التهميش بشكل متزايد وبدعم من إيران، استولوا على مساحات شاسعة من البلد, وفي المقابل, عمل التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية والمدعومة من قبل المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية على دعم الحكومة اليمنية ووقوع البلد في شرك الحرب الأهلية المدمرة.

تم طرد الحوثيين من أجزاء كثيرة من البلد بحلول منتصف العام 2018,  بما في ذلك مدينة الضباب في الجنوب, وتوقف القصف.

لقد انزلق البلد إلى صراعات على السلطة المحلية وتشكل الميليشيات بالوكالة تهديدات مستمرة ولا يمكن التنبؤ بها, ولكن يبدو أن هناك في النهاية بصيصاُ من الضوء في نهاية النفق.

تعد مدينة الضباب واحدة من الأماكن الكثيرة في اليمن التي تدعو من أجل أن يحل السلام.

تقع المدينة مباشرة فوق مضيق باب المندب- المعروف باللغة الإنجليزية باسم بوابة الدموع – وهي نقطة تفتيش في البحر الأحمر تتحكم في الوصول إلى قناة السويس وأوروبا في الشمال وآسيا في الجنوب, كما يعتبر المضيق ذو أهمية عالية بالنسبة لكل من الشحن والخدمات العسكرية.

عندما سيطر الحوثيون على مدينة الضباب، لم يضيع التحالف والسعوديين سوى القليل من الوقت في محاولة لاستعادة المدينة، حيث أمطروا المنازل والمدارس والمستشفيات بالقنابل, وفي سبتمبر 2011, ضربت غارة جوية للتحالف حفل زفاف بالقرب من قرية الواحجة، مما أسفر عن مقتل ما يصل إلى 131 شخص, وهي واحدة من أسوأ الفظائع التي تعرضت لها المدنية في الحرب.

قبل مضي وقت طويل، كان جميع سكان هذه القرية التي يبلغ عدد سكانها 8000 شخص قد فر الكثير منهم إلى جيبوتي الواقعة على بعد 19 ميلاُ فقط عبر الممر المائي الضيق.

كانت عائشة عبد القادر من بين من فروا, حيث وجدت هي وزوجها وأبنائها في مخيم اللاجئين الذي تديره الأمم المتحدة في مدينة أوبوك في جيبوتي مأوى لهم, حيث كان مكاناً بائساً وفيه القليل من الماء والطعام ولا يكاد يوجد رعاية طبية.

عندما قابلت عائشة في فبراير 2019, كانت تجلس في ظل قطعة من القماش المشمع الشفاف وتقوم بحياكة حقيبة صغيرة ذات لون احمر واسود، وبجوارها عنزة مربوطة.

لم تتمكن من المكوث هناك لفصل صيف آخر, حيث كان زوجها وأولادها قد عادوا إلى مدينة الضباب قبل بضعة أسابيع وستنضم إليهم حالما يبلغونها بإمكانية ذلك.

في عام 2018, بدأ الناس في العودة إلى مدينة الضباب لكنهم لم يكونوا مستعدين لما سيجدونه, فقد كانت المدينة قد سُوِّيت بالأرض وغطيت المنازل بالأنقاض وقد انفصلت طبقات القرميد وتبعثرت، وجثث الحوثيين القتلى في كل مكان, في الشوارع والمتاجر والمنازل.

وبحلول صيف عام 2019, كان ما يقرب من 5000 من سكان المدينة البالغ عددهم 8000 شخص قد عادوا إلى المدينة, وتم تنظيف المدينة من جثث القتلى, ولكن بصرف النظر عن ذلك، لم يتغير شيء يذكر.

لقد قلل التضخم من قيمة الريال اليمني وجعل الحاجات الأساسية وحتى الطعام باهظ الثمن.

لقد كان سكان المدينة يعيشون فيما سبق الايام في رغد من العيش في صيد الأسماك، لكن يمكنهم الآن تقديم الأفضل من الغذاء لعائلتهم ليوم واحد وغالباُ لا يحصلون على ذلك, كما يجب عليهم الآن دفع فواتير المياه والتي كان يتم الحصول عليها في السابق مجاناُ من الآبار, لكن هذه الآبار قد جفت الآن أو أصبحت ملوثة برشح الملح البحري  الذي يرتفع بسبب تغير المناخ.

ومع الأيام انخفض الكفاح للحصول على الغذاء، كما ان إعادة البناء أمر مستحيل, حيث يعيش معظم الناس بين الأنقاض أو في أكواخ خشبية صغيرة الحجم، وهي بديل أرخص عن المنازل المصنوعة من الخرسانة والحجر المتينة التي كانت موجودة من قبل.

عادت عائشة بحلول يوليو 201 إلى مدينة الضباب ووجدتها جالسة إلى جانب زوجها إبراهيم حسان على المرتبة الرقيقة الضيقة التي يتقاسمونها مع ولديهم البالغين, فالمكان الذي يعيشون فيه صغير جداً ومصنوع من القماش المهترى المدعوم بأجزاء من الأخشاب  مثبتة في الأرض.

يقول ابراهيم: “لحقت بمنزلنا الكثير من الاضرار وليس لدينا حتى الخشب لإعادة بنائه,  كما لا توجد كهرباء ولا يقي الملجأ الذي نقطن فيه أي شي من المطر, يتم توصيل المياه مرة واحدة في الأسبوع، كما ليس نملك ما نخزن فيه المياه, حيث نحاول إيجاد المزيد من القوارير لحفظ المياه فيها.

لقد كان إبراهيم دائماُ يزود الأسرة بالأسماك التي كان يصطادها ولكن التضخم يعني أن المصيد يساوي جزءاُ ضئيلاُ من قيمته السابقة، في حين أن الحرب قد قلصت المخزون وأنهت التجارة.

يوصل ابراهيم حديثه: “قبل ذلك، كان الصيد من الشاطئ كافياً بـ 1000 ريال قبل الحرب نستطيع أن نشتري الكثير من الأشياء والآن لا تستطيع ان نشتري بها شيئاُ, كما أن عدد الاسماك أقل بكثير مما كان عليه في السابق بسبب القنابل المقذوفه في البحر, ومن قبل، كنا نبيع أيضاُ الأسماك للسعوديين، لكننا لا نستطيع الآن, فالحرب قد أوقفت هذه التجارة تماماُ, والآن نكافح كثيراً من أجل كسب حتى قوت يوم واحد.

يحمل إبراهيم مجذافاُ مؤقتاُ – عصا من الخشب بها مربعات من البلاستيك قد خيطت على نهاية كلا الطرفين- كما أنه يصنع قارباُ من قطع الخشب الطافية المستخدمة للإنقاذ.

كان حفيد محمد، البالغ من العمر عامين مريضاُ جداً، ولكن الأمل ضعيف في العلاج, حيث قال إبراهيم, لا يوجد لدينا المال للعلاج, كما انه يوجد طبيب لكنه لا يملك أي معدات, لا يوجد كهرباء, وليس لدينا أموال لكي نشتري الطعام, فكيف يمكننا الحصول على الدواء؟.

المستشفى الحكومي الاساسي الذي كان يعمل, أصبح اليوم يرزح تحت الأنقاض ولا يعمل فيه سوى طبيبين, يعتمد كلاهما على الرسوم التي تأتي من المرضى لكسب الرزق، لكن بما أن الكثير من الناس لا يستطيعون تحمل تكاليف العلاج، فإنهم يفشلون في طلب المساعدة حتى بعد فوات الأوان.

قبل الحرب، كانت تتوفى امرأة واحدة من بين كل 10 نساء أثناء الولادة, والآن، ثلاثة إلى أربعة نساء من كل 10 نساء يتعرضن للوفاة اثناء الولادة.

وقال الطبيب عبد الواسع عبدول العائد إلى المدينة في عام 2018, والذي توافد اليه المرضى, أن سوء التغذية اصبح متفشي.

“بعض الناس يقتاتون على الخبز فقط ولعدم وجود الرواتب فأن الناس لا يتغذون بشكل جيد, الكثير يموتون من سوء التغذية, بمعدل ثلاثة اشخاص شهرياً ومعظمهم من الأطفال”.

إن الأمراض المعدية، بما فيها حمى الضنك والكوليرا والتهاب السحايا والحصبة والملاريا، كلها أمور تعصف بالمجتمع, والآن، تصل حالات الوفاة الى 30 في المائة بين المرضي ومن قبل كانت حالات الوفاة تصل الى أقل من 10 %”.

أدى نقص الأدوية والأسرّة والكهرباء واللقاحات والمعدات إلى عدم قدرته على علاج المرضى, كما أنه قلق على أطفاله الثلاثة الصغار وكلهم ما دون سن الثامنة, وإذا كنا في وضع سيئ الآن، فسيكون الأمر أسوأ في المستقبل”.

يقول إبراهيم, أن الصراع المستمر أدى إلى شرخ الروح التي وحدت المجتمع فيما مضى, وبسبب الفقر المدقع، فإن الناس كثيرا ما تراهم غاضبون وحزينون ويمكن أن تؤدي مشكلة صغيرة الى حدوث عراك,  لذلك، فإن الناس يتعاركون كثيرا.

تقول القابلة هيام مبارك فرحان, إن الضغط النفسي يؤثر سلباُ على الصحة العقلية للناس أيضاُ, وتصاعد حالات الانتحار بحدة, حيث تأتي النساء إليّ وهن في حالة حزن شديد, أحاول أن أشجعهن على التحدث, كما أحاول أن أستمع اليهن وأقنعهن أن غداً سيكون أفضل, “لكن البعض منهم يشعرن بالإحباط والاكتئاب و يفكرن في الإنتحار, والكثير هنا قد قاموا بقتل أنفسهم, فقبل أسبوع واحد فقط، قامت امرأة بقتل نفسها وكذا من قبلها قام رجل بقتل نفسه “لقد أرادوا أن يبتعدوا عن الواقع, حتى الأطفال مصابون بالاكتئاب أيضاُ, إنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض, ولا يلعبون مع الآخرين من اقرانهم, “انا غاضبة. والناس غاضبون”.

ان هذا الغضب أيضاُ ناتج من المنظمات غير الحكومية الدولية التي يتهمها سكان المدينة بعدم القيام بالكثير للمساعدة.

يقول عبد الحميد محمد المسلمان مسؤول مدينة الضباب: “قدمت الكثير من المنظمات وقامت بتصوير المنازل التي دُمرت, حيث أن المنظمات تنفق الكثير من المال على السيارات والكثير من المال على الأشخاص الذين يعملون لصالحهم ولكن ليس على الأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدة, ولا يزال الإمارتيون يقولون لنا إنهم سيعيدون بناء المستشفيات والمدارس لكنهم لم يفعلوا شي من ذلك بعد”.

يعمل حميد اللقف ذو 35 عاماُ,  مع مدير منطقة الضباب, حيث أشار إلى أنه ليس هناك مساعدة حقيقية, لذا، فأن الناس يشعرون هنا بالإحباط من هذه المنظمات, لإنهم لا يقدمون المساعدة, فالعمل الوحيد الذي يقومون به تصوير وجوهنا فقط”.

إن المساعدة التي قُدمتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على سبيل المثال – إقامة مخيم, وهو ليس ما يريده الناس, لماذا لا يساعدوننا في إعادة بناء منازلنا؟”

اضطر سكان المدينة إلى إزالة الأنقاض بأنفسهم، وإعادة البناء وإزالة الألغام والذخائر التي تنتشر في المنطقة, لكن هذا يزهق الأرواح ويؤدي الى فقدان الأطراف, ففي فبراير 2019, لمس أحمد البالغ من العمر 13 عاماُ لغم أرضي متدلي من سطح منزل الاسرة, وكان والده قد علقها لإبقائها بعيدة عن متناول الأطفال الفضوليين, ولكنه فقد إصبع يده اليسرى، وتطايرت  شظايا الى عينيه وجسده ويده الأخرى.

عندما اوقفت الحرب عملية التعليم في المدارس، انهت بذلك حلم أحمد في أن يصبح طبيباً، لذا عمل كصياد, ولكن بيده المعاقة، لم يعد بإمكانه فعل ذلك وأصبح محصوراً في بيع القات, واليوم, غالباُ ما يعاني من الجوع ومن الكوابيس ويلاقي متعته الوحيدة في تربية الحمام والعصافير, حيث يملك ما عددها 40 طائر, ويقول: عندما ارى أبي  ليس لديه إلا القليل من المال بسبب عدم وجود عمل، أعتقد أنه لن يكون هناك مستقبل جيد, “انا لست متفائلاً”, فكل هذا يحدث بسبب التحالف”، تمتم  صالح والد أحمد بغضب, حيث قال أن التحالف الذي جاء لمساعدتنا, دمرنا”.

الجميع هنا مقتنعون أن حرباً اخرى  تلوح في الأفق وستكون أسوأ من هذه, كما يقولون إنها ستكون معركة بين الميليشيات العميلة للمملكة العربية السعودية والإمارات, وهناك قلق أيضاُ من عودة الحوثيين والقيام بالانتقام الصارم من الدعم المحلي للتحالف.

يختم أحمد إبراهيم حديثه, أنه متأكد بنسبة 100 % أنه سيكون هناك حرب أخرى, فقد سمعنا عن السفن السعودية القادمة إلى باب المندب ورأيتها عندما كنت أذهب للصيد”, هذا الموقع مهم جدا بالنسبة للمنطقة من الناحية الاستراتيجية, وبالطبع أنا خائف, فجميعنا عاني  من الجوع في الحرب الماضية, وماذا سنفعل عندما تندلع الحرب القادمة؟ حيث سوف يعانون بنفس القدر الذي يعانيه النازحون إذا بقينا في المنزل, فالمكوث في منزلك أفضل من المكوث في مكان آخر, فالشيء الأفضل، أن تموت في المنزل”.

  • المقال تم ترجمته حرفيا وبالضرورة لايعبر عن راي الموقع