أميركا و"إسرائيل": نهاية التاريخ العسكري؟
مازن النجار*
في سياق التحذير من العدمية الإمبريالية التي يعبر عنها أميركياً بالعسكرة والهوس المزمن بالحروب، يخشى مفكرون أميركيون عواقب النزوع الإمبراطوري الأميركي، ويرون علة التجربة الأميركية في المشروع الإمبريالي الكامن داخلها الذي يمثل نقيض مشروع الجمهورية ويقوّض مؤسساتها.
وكان المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود قد حذّر إبان الغزو والاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق عقب أحداث سبتمبر 2001 من أن العالم على وشك أن يكرر الخطأ نفسه الذي وقع فيه عند قراءة وضع الاتحاد السوفياتي خلال السبعينيات عندما تدخل عسكرياً في فيتنام والشرق الأوسط وأفريقيا وغزا أفغانستان؛ أي إساءة تفسير التوسع في النشاط العسكري الأميركي باعتباره مؤشراً على قوة أميركا المتزايدة، في حين أن هذه العسكرة والعدوانية قناع.
التراجع والأفول!
في ضوء حربي أوكرانيا وغزة والتعثر الجيو-استراتيجي الأميركي والغربي عالمياً، لم يعد الغرب يبدو منتصراً. ومع ذلك، فإن أحداث القرن الحالي قادت التاريخ إلى نقطة نهاية مختلفة نوعاً ما، فرغم احتفاظ الليبرالية الغربية ربما بجاذبيتها، فإنَّ الطريقة الغربية في الحرب تحركت إلى نهايتها الطبيعية.
قد تكون القوة العسكرية وسباق التسلّح حددا مسار المنافسة الأيديولوجية بين الكتلتين الرأسمالية والاشتراكية؛ فخلال معظم القرن العشرين، كانت القوى العظمى تتنافس لتبتكر أدوات جديدة أكثر فعالية للقسر والإكراه.
تأخذ الابتكارات العسكرية أشكالاً متعددة، وأكثرها وضوحاً هي الأسلحة: المدرعات البحرية وحاملات الطائرات، والصواريخ والقذائف، والغازات السامة، والقنابل الذرية، والقائمة طويلة! بيد أن الدول في جهودها الرامية إلى كسب ميزة كرست اهتماماً مماثلاً لعوامل أخرى مثل: العقيدة والتنظيم، وأنظمة التدريب، وخطط التعبئة، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وخطط الحرب.
يرى أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن والكولونيل الأميركي السابق، أندرو باسيفيتش، أن كل هذا النشاط المحموم لدى مختلف القوى العظمى يأتي من اعتقاد شائع بمعقولية النصر. يمكن تبسيط التقاليد الحربية الغربية في عبارة قصيرة: تظل الحرب أداة ناجعة في فن وصنعة الحكم، وتساعد إكسسوارات الحداثة في تعزيز فائدتها.
الأوهام الكبرى
كانت تلك هي النظرية، لكن الواقع كان قصة مختلفة تماماً، فقد وصلت صراعات العصر الصناعي المسلحة إلى آفاق فتك وتدمير جديدة. فبمجرد اندلاعها، تلتهم الحروب كل شيء ملحقة أضراراً مادية ونفسية ومعنوية هائلة لتتجاوز آلامها المكاسب المتحققة منها بمراحل.
هكذا، أصبحت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) رمزاً ومثالاً، فحتى الفائزون في الحرب صاروا خاسرين في نهاية المطاف. وبانتهاء القتال، غادر المنتصرون، لا ليحتفلوا، بل ليعلنوا الحداد. وفي المحصلة، بدأت الثقة في الغرب تهتز في قدرة الحرب على حل المشكلات. في 1945، تلاشت هذه الثقة تماماً لدى عدة قوى عظمى أصبحت بعد الحرب قوى عظمى بالاسم فقط.
من بين الدول المصنفة (ديمقراطية ليبرالية) هناك دولتان تقاومان هذا الاتجاه:
- الولايات المتحدة، الدولة الكبرى الوحيدة المولعة بالقتال، والتي خرجت من الحرب العالمية الثانية أقوى وأغنى وأكثر ثقة.
- "إسرائيل" التي نشأت كنتيجة مباشرة لأهوال أطلقها طوفان هذه الحرب.
في الخمسينيات، كانت الدولتان على قناعة بأن الأمن القومي (أو البقاء القومي) يتطلب تفوقاً عسكرياً لا لبس فيه.
في قاموس السياسة الأميركية والصهيونية ، كان "السلام" مصطلحاً مشفراً. وكان الشرط الأساسي لتحقيق "السلام" لكل الخصوم الحقيقيين أو المحتملين هو القبول بشرط الدونية الدائمة. وفي هذا الشأن، كانت هاتان الدولتان، ولم تكونا قد أصبحتا بعد حليفتين حميمتين، تخالفان باقي العالم الغربي!
لذلك، فحتى وهما تصرحان بتفانيهما في خدمة السلام نجد أن النخب المدنية والعسكرية في الولايات المتحدة و"إسرائيل" يستحوذ عليهما هاجس الاستعداد للحرب، فيما لا تريان تناقضاً بين القول والفعل.
ومع ذلك، فإن الاعتقاد بفعالية وكفاية القوة العسكرية يولد حتماً الإغراء باستخدامها، إذ يسهل التحول من تحقيق "السلام بواسطة القوة" إلى تحقيق "السلام بواسطة الحرب". استسلمت "إسرائيل" لهذا الإغراء عام 1967.
بالنسبة إلى "الإسرائيليين"، أثبتت حرب الأيام الستة أنها نقطة تحول، فقد انتصر، بزعمهم، "داوود" الشجاع، ثم تحول إلى "جالوت". وإذ كانت الولايات المتحدة تتخبط في فيتنام، كان واضحاً أن "إسرائيل" نجحت في السيطرة على حربها تماماً.
بعد ربع قرن من ذلك، تعلمت القوات الأميركية الدرس، كما يبدو. ففي 1991، أظهرت عملية عاصفة الصحراء -حرب جورج بوش الأب ضد عراق صدام حسين- أن القوات الأميركية مثل القوات الصهيونية تعرف كيف يمكنها تحقيق الفوز سريعاً، وبثمن بخس، فقد أقنع جنرالات مثل نورمان شوارتزكوف أنفسهم بأن حملة عاصفة الصحراء ضد العراق تكرر أو تضاهي مآثر ساحات معارك شنها مشاهير القادة "الإسرائيليين" مثل موشى ديان وإسحق رابين، وتلاشت ذكرى إخفاقات فيتنام.
مستوطنات البنتاغون العسكرية
لكن بالنسبة إلى كل من "إسرائيل" والولايات المتحدة، أثبتت المظاهر أنها خادعة. وبصرف النظر عن أن الحربين الناجحتين عامي 1967 و1991 عززتا أوهاماً كبرى، إلا أنهما حسمتا القليل من الأمور؛ ففي كلتا الحالتين، تبين أن النصر كان ظاهرياً أكثر من كونه حقيقياً. والأسوأ من هذا أن نزعة التفوق عززت سوء التقدير المستقبلي.
في هضبة الجولان وغزة والضفة الغربية، نجد أن أنصار "إسرائيل" الكبرى يتعهدون سيطرة "إسرائيل" الدائمة على الأراضي التي احتلتها، لكن "حقائق الأمر الواقع" الناشئ على الأرض من موجات المستوطنين اليهود المتعاقبة لم تعزز أمن "إسرائيل"، فحقائق الأمر الواقع كبلت "إسرائيل" بسرعة النمو السكاني لفلسطينيين مستائين لا تستطيع تهدئتهم ولا استيعابهم.
وبالمثل، تبين أن فوائد أميركا في الخليج بعد حرب 1991 سريعة الزوال، فقد بقي صدام حسين، وصار، في نظر الإدارة الأميركية التالية، تهديداً وشيكاً لاستقرار المنطقة. أدى هذا التصور (أو الذريعة) إلى إعادة توجيه جذرية لاستراتيجية واشنطن، فلم تعد ترضى بمجرد منع القوى الخارجية المعادية من التحكم في الخليج الغني بالنفط، بل غدت تسعى لإحكام سيطرتها على الشرق الأوسط الكبير بأكمله. أصبحت الهيمنة هي الهدف، لكن الولايات المتحدة أثبتت أنها لم تحقق نجاحاً أكثر مما حققته "إسرائيل" في فرض إرادتها.
خلال التسعينيات، شرع البنتاغون، طوعاً أو كرهاً، فيما صار بديلاً أميركياً معادلاً لسياسة الاستيطان الصهيونية ، لكن القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة بالعالم الإسلامي والقوات الأميركية العاملة في المنطقة ثبت أنها لا تلاقي من الترحيب أكثر مما تلاقيه المستوطنات الصهيونية بالأراضي المحتلة و"الجيش" الصهيوني المخصص لحماية المستوطنات. في كلتا الحالتين، تسبب وجود القوات بإثارة المقاومة (أو توفير ذريعتها). ومثلما يقاوم الفلسطينيون الصهاينة وسطهم، استهدف الإسلاميون المتشددون الأميركيين ممن يعتبرونهم كفاراً ومستعمرين جدداً.
التــورط
تتمتع "إسرائيل" (إقليمياً) وأميركا (عالمياً) بهيمنة عسكرية واضحة؛ ففي محيط "إسرائيل" القريب، كانت الدبابات وقاذفات الصواريخ والسفن الحربية الإسرائيلية تؤدي دورها بفعالية، وكذلك الدبابات وقاذفات الصواريخ والسفن الحربية الأميركية أينما تم إرسالها.
وماذا في هذا؟ توضح الأحداث بشكل متزايد أنَّ الهيمنة العسكرية لم تترجم لميزة سياسية ملموسة؛ فبدلاً من تعزيز فرص السلام، أنتج القسر والإكراه مضاعفات وتعقيدات أكثر بكثير، فمهما كان المدى الذي يصل إليه الضرب أو الهزيمة المحيقة بـ"الإرهابيين" (مصطلح شامل يطلق على أي شخص يقاوم السيطرة الصهيونية والأميركية)، فهم لم يخافوا، ولم يندموا، بل إنهم يعودون إلى المزيد.
اصطدمت "إسرائيل" بهذه المشكلة أثناء حرب "سلام الجليل": اجتياح لبنان في 1982، وواجهتها القوات الأميركية بعد عقد أثناء "عملية استعادة الأمل"، وهي غزوة ذات عنوان رائع شنها الغرب على الصومال. للبنان جيش ضعيف، فيما ليس لدى الصومال جيش على الإطلاق. وبدل نشر السلام أو استعادة الأمل، باءت العمليتان بالإحباط والإحراج والفشل.
أثبتت هاتان العمليتان أنهما نذير بأن القادم أسوأ؛ فمع بداية الثمانينيات، كانت أيام مجد "الجيش" الصهيوني قد انتهت. وبدلاً من توجيه ضربات خاطفة صاعقة في عمق العدو، صار سرد التاريخ العسكري الصهيوني تسجيلاً كئيباً للحروب القذرة: صراعات ومواجهات غير تقليدية ضد قوات غير نظامية تسفر عن نتائج مشكوك فيها. وجاءت الانتفاضة الأولى (1987-1993)، والانتفاضة الثانية (2000-2005)، وحرب لبنان الثانية (2006)، والحروب سيئة السمعة على غزة، بدءاً بـ"عملية الرصاص المصبوب" (2008-2009)، ثم في 2012 و2014 و2021 و2023، لتؤكد هذا النمط.
وفي الوقت ذاته، برز الفارق بين معدلات المواليد الفلسطينية والصهيونية كتهديد يلوح في الأفق، كـ"قنبلة ديمغرافية"، كما سماها بنيامين نتنياهو.
كانت هناك حقائق جديدة على الأرض: ما لم تعمل القوات العسكرية الصهيونية وفقاً لسياسة التطهير العرقي، فلن يكون أمامها شيء يذكر لتتداركه. وبينما يحاول "الجيش" الصهيوني عبثاً مراراً وتكراراً ضرب حماس وحزب الله لدفعهما إلى الاستسلام، تظهر الاتجاهات الديمغرافية (السكانية) أن العرب سيصبحون الأغلبية في "إسرائيل" والمناطق المحتلة.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن رأي الكاتب