السياسية:

 

دخل عالم اليوم، بهيكله الحالي للعلاقات الدولية، في مرحلة جديدة من التحول، التي ستستغرق سنوات. وفي قاعدة عامة، تظهر مثل هذه التطورات من خلال إصلاح شامل للنظام القديم مع إنشاء نظام جديد بدلاً منه، وهي عملية مؤلمة عادةً. ويُعَد الشرق الأوسط إلى حد كبير اختباراً للتغيرات في العالم، وقد دخل مرحلة التحول منذ نحو 10 سنوات، مُنذِراً بتغيرات عالمية في النظام الدولي ككل. وباعتبارها “رائداً عالمياً” في عدد النزاعات والأزمات المحتملة، تعرف دول الشرق الأوسط ثمن التغييرات الحالية وتسعى جاهدة لاستخدام الدبلوماسية والوساطة والبراغماتية للتخفيف من الأزمات، بما في ذلك الصراع في أوكرانيا.

دول المنطقة تتوسّط في الصراع الروسي – الأوكراني

في 21 و22 سبتمبر/أيلول، تبادلت روسيا وأوكرانيا أكبر عدد من أسرى الحرب منذ تصاعد الصراع في فبراير/شباط 2022، وأبرم الطرفان اتفاقاً في يوليو/تموز لفتح الموانئ الأوكرانية لتصدير الحبوب. وقد تحققت الانفراجة الدبلوماسية بفضل المساعي الحميدة التي قدمتها جهات فاعلة خارج الصراع كما يقول موقع Modern Diplomacy الأوروبي. على وجه الخصوص، شاركت تركيا والمملكة العربية السعودية في إنشاء تبادل أسرى الحرب، بينما عملت تركيا، إلى جانب الأمم المتحدة، للتوسط في إبرام صفقة الحبوب.

وفي 11 أكتوبر/تشرين الأول، توجه رئيس دولة الإمارات، محمد بن زايد آل نهيان، إلى روسيا في أول زيارة رسمية له إلى هناك منذ 3 سنوات للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وخلال المفاوضات، شكر بوتين نظيره على جهود الوساطة التي يبذلها و”مساهمته في حل جميع القضايا الخلافية، بما في ذلك الأزمة الحالية في أوكرانيا”.

السعودية توسطت مؤخراً بصفقة لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا/ رويترز

وفي 13 أكتوبر/تشرين الأول، التقى الرئيسان الروسي والتركي في أستانا، حيث كان من المتوقع أن يناقش القادة الأمور المتعلقة بالصراع المستمر في أوكرانيا، بما في ذلك وساطة أنقرة، من بين قضايا ثنائية أخرى. وتوضح هذه التفاعلات رفيعة المستوى الاهتمام الشديد لدول الشرق الأوسط بالعمل وسطاء في التصعيد الخطير بين روسيا والغرب وسط الصراع الأوكراني.

وتجدر الإشارة عامةً إلى أنَّ دول الشرق الأوسط تشارك باستباقية في العملية الدبلوماسية، وتعرض قدراتها على الوساطة لموسكو وكييف، مع الحفاظ على حيادها وروحها العملية. وما يزداد وضوحاً أنَّ هذه الدول مهتمة أكثر بكثير بتسريع حل النزاع – أو على أقل تقدير، بعدم إطالة أمده – من نظرائهم الغربيين. بدءاً من تصعيد النزاع الأوكراني في أواخر فبراير/شباط 2022، عرضت عدة دول في الشرق الأوسط نفسها كوسطاء؛ وهي إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر ومصر، وغيرها. واقترحت جامعة الدول العربية أيضاً التوسط. إذاً، ما الذي يكمن وراء موقفها النشط؟

ما الذي يجعل دول الشرق الأوسط مؤهلة لهذه المهمة؟

تقول المجلة الأوروبية، بدايةً، من المهم تسليط الضوء على أنَّ دول الشرق الأوسط كثفت مؤخراً من استخدامها للبراغماتية في سياساتها الخارجية لأنها تُنوِع حقائبها الدبلوماسية؛ الأمر الذي يؤتي ثماره بالتأكيد.

على سبيل المثال، تتمتع قوى الشرق الأوسط مثل السعودية وتركيا وإيران (قبل التقارير المتعلقة بتزويد روسيا بطائرات بدون طيار) ومصر بعلاقات عمل جيدة مع كل من موسكو وكييف، وكذلك مع الدول التي تقدم مساعدات عسكرية مباشرة لأوكرانيا.

الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. ( وكالة الأناضول )

حتى الآن، لن يختار أي منها طرفاً لإرضاء الغرب، الذي كان يمارس ضغوطاً لتنضم هذه الدول إلى العقوبات و”وضع قيود مشددة” على العلاقات مع روسيا، إن لم يكن قطعها تماماً. من الواضح أنَّ دول الشرق الأوسط تدرك أنَّ اختيار أحد الجانبين لن يعرض علاقاتها الثنائية المتطورة مع روسيا للخطر فحسب، بل يستبعد أيضاً إمكانية قيامها بدور الوسيط في المفاوضات، وبالتالي المساهمة في حل الأزمة الأوكرانية. إلى جانب ذلك، من المؤكد أنَّ هذا سيلقي بظلاله على قدراتها الوسيطة في المستقبل: إذ لن يرغب أي أحد في اللجوء لوسيط يدعم صراحةً طرفاً معيناً في النزاع.

روسيا تفضّل دولاً شرق أوسطية على الغرب في الوساطة

لكن من خلال اتباع سياسات براغماتية، سيكون لدى دول الشرق الأوسط المزيد من الفرص للتوسط، وتعزيز الحل السلمي وتعزيز مصالحها باستمرار. وهذا هو السبب في أنَّ موسكو لا تعتبر الدول الغربية وسطاء محتملين: فقد أساءت هذه الدول بوضوح إلى حيادها بعدما صارت طرفاً بحكم الواقع في الصراع بفرض عقوبات وإرسال أسلحة ومدربين ومرتزقة إلى أوكرانيا.

وفي ظل هذه الظروف، يمنحها الحياد المستمر لدول الشرق الأوسط ميزة؛ لأنَّ موقفها يبدو متوازناً ومستقلاً ومتسقاً مع مصالحها الفضلى على عكس النهج الذي يفضله الغرب. ويستمر الشرق الأوسط في شراكته مع الغرب، وفي نفس الوقت يطور التعاون مع روسيا والصين، وهما المركزان الآخران لعالم اليوم. وتنظر موسكو إلى هذا النهج باعتباره عملياً، ويؤدي إلى تعزيز الحوار.

ترتبط روسيا وتركيا، على سبيل المثال، بعلاقات عملية وقائمة على الاحترام المتبادل؛ مما سمح للدولتين مؤخراً بالتغلب بنجاح على العديد من الأزمات على الرغم من خلافاتهما (التي ترجع إلى إسقاط طائرة سوخوي 24 في سوريا عام 2015، والمواجهة في سوريا وليبيا، ومبيعات المعدات العسكرية لأوكرانيا).

وهذا يجعل تركيا وسيطاً أكثر قبولاً لموسكو. وينطبق الشيء نفسه على العلاقات الروسية السعودية التي تستمر في التطور، على الرغم من خلافات الدولتين في سوريا أو صراع السعودية مع إيران، الدولة التي تربطها علاقات ودية مع روسيا.

دول المنطقة لا تثق بالغرب صاحب المعايير المزدوجة

الأمر الآخر بحسب “مودرن دبلوماسي”، لا تثق معظم دول الشرق الأوسط في الغرب. وترى هذه الدول أنَّ الصراع الأوكراني يثبت أنَّ الغرب يلجأ إلى المعايير المزدوجة في تعامله مع قضية المهاجرين والنزاعات المسلحة الأخرى (على غرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني) أو تسليم الأسلحة.

ثالثاً، يمكن القول إنَّ دول الشرق الأوسط تفضّل عالماً متعدد الأقطاب أو متعدد المراكز على عالم أحادي القطب؛ لأنها تفضل عالماً به طرق عديدة للتحوط من المخاطر -بعبارة أخرى عدم وضع كل البيض في سلة واحدة، والاستفادة من الحفاظ على التوازن؛ من خلال الحصول على أسلحة وضمانات أمنية من الولايات المتحدة، واستثمارات من الصين، وتعاون في الطاقة والأمن من روسيا. وصارت السياسة متعددة النواقل (الاتجاهات) واحدة من الركائز الجديدة لعلاقاتها الخارجية. وبهذه الطريقة، تضمن هذه الدول ظروفاً مريحة لتنميتها وإعطاء الأولوية لمصالحها الخاصة، بدلاً من مصالح أي جهة أخرى.

تتمتع منطقة الشرق الأوسط ككل، وكذلك كل دولة من دول المنطقة، اليوم بفرصة فريدة لتصبح منصة حوار محايدة، حيث يمكن أن تلتقي مختلف الأطراف المتصارعة. ويمكنها أيضاً البدء في إعداد مبادرات الخبراء المختلفة التي تجمع المفكرين من الأطراف المتعارضة.

ونظراً لأنَّ الدول الأوروبية التي كانت ذات يوم محايدة لم تعد كذلك (النمسا وسويسرا والسويد وفنلندا)، سيكون هناك نمو ملموس في الطلب على الدول المحايدة فعلاً القادرة على إنشاء أماكن إقليمية جديدة مع مراعاة الفروق الدقيقة في صراع معين. وفي النهاية، قد يظهر شيء مشابه لحركة عدم الانحياز التي تشمل دولاً محايدة لها صوتها الخاص. وقد يصير هذا أيضاً عاملاً قادراً على توحيد دول المنطقة لمساعدتها على التغلب على مشكلاتها الخاصة.

ما القيود التي تمنع دول الشرق الأوسط من هذه الفرصة؟

عند التفكير في كل هذا، من المهم جداً الإشارة إلى أنه بغض النظر عن نوايا دول الشرق الأوسط ومنهجها البراغماتي، فإنها ليس لديها النفوذ لجعل روسيا وأوكرانيا والغرب يجلسون على طاولة المفاوضات وفرض السلام. ومع ذلك، فإنَّ دورها الرئيسي مختلف، وهو يكمن في التحضير لعملية تفاوض مناسبة والحفاظ عليها بمجرد أن يحين الوقت والظروف. ومع ذلك، فإنَّ تركيا والمملكة العربية السعودية على استعداد لتقديم نفسيهما باعتبارهما محاورين في المسائل الفردية المتعلقة بصفقة الحبوب أو تبادل أسرى الحرب.

وفي الوقت نفسه، لا ينبغي أن يُتوقَع من الغرب التخلي عن محاولاته للضغط على شركائه في الشرق الأوسط لإجبارهم على الانضمام إلى العقوبات المناهضة لروسيا. وإذا نجحت دول الشرق الأوسط في الحفاظ على نهجها البراغماتي تجاه الأزمة الأوكرانية، والمواجهة بين روسيا والغرب، وفي مواصلة سياساتها متعددة النواقل، فستكون هناك المزيد من الفرص لتسوية بنّاءة وانتقال أكثر سلاسة إلى هيكلية جديدة من العلاقات والأمن الدوليين.

 

المصدر : عربي بوست
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع