مستقبل التاريخ ..هل تنجو الديمقراطية الليبرالية من تراجع الطبقة الوسطى؟
السياسية:
ثمة أمور غريبة تحدث في العالم اليوم. إن الأزمة المالية التي هزت الاقتصاد العالمي في 2008 وأزمة اليورو المستمرة حاضراً، هما نتاج نموذج الرأسمالية المالية التي لا تخضع سوى لقدر بسيط من الضوابط التنظيمية، وقد ظهرت خلال العقود الثلاثة الماضية.
وعلى الرغم من الغضب العارم الواسع النطاق من عمليات الإنقاذ المالي لمؤسسات “وول ستريت”، لم تشهد الشعبوية الأميركية اليسارية أي نهضة تذكر [أقر الكونغرس حزمة ضخمة من الدعم للشركات والمؤسسات، خصوصاً المصارف، التي انهارت في أزمة 2008 حين انهارت أسهم العقارات والشركات والمشتقات المالية].
ومن المفهوم أن تكتسب “حركة احتلوا وول ستريت” بعض الزخم مستقبلاً [حركة يسارية أميركية نادت بتحميل مؤسسات المال في “وول ستريت” مسؤولية الانهيار الاقتصادي في 2008].
في المقابل، يبقى أن أكثر الحركات الشعبوية الحديثة دينامية حتى الآن هو “حزب الشاي” اليميني الذي يهدف بصورة أساسية إلى إقامة دولة تشريعية أساساً تسعى إلى حماية الناس العاديين من المضاربين الماليين [ينظر إلى المناداة بإعلاء سلطة التشريع على أنه إخلال بالتوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية]. وينسحب الشيء ذاته تقريباً على أوروبا، حيث يفتقر اليسار إلى القوة والحيوية فيما تتمتع الأحزاب الشعبوية اليمينية بحضور بارز ونشاط كبيرين.
وتتعدد الأسباب التي تكمن وراء هذا النقص في التعبئة اليسارية، لعل أهمها الفشل في ابتكار الأفكار. فعلى مدى الجيل الماضي، انفرد اليمين الليبرالي بالأسس العقائدية للقضايا الاقتصادية، بالتالي لم يكن بمقدور اليسار تقديم حجة معقولة لأجندة أخرى غير العودة إلى شكل لا يحتمل من الديمقراطية الاجتماعية القديمة الطراز.
إن هذا الغياب الواضح لسردية مضادة تقدمية ومقبولة ليس بأمر صحي، لأن المنافسة مفيدة للمناقشة الفكرية بقدر ما هي مفيدة للنشاط الاقتصادي، بالتالي باتت الحاجة ماسة اليوم إلى نقاش فكري جاد، خصوصاً أن النمط الحالي للرأسمالية المعولمة يمثل الباعث على تآكل القاعدة الاجتماعية للطبقة الوسطى التي تستند إليها الديمقراطية الليبرالية.
الموجة الديمقراطية
ليست القوى والظروف الاجتماعية هي التي “تحدد” الأيديولوجيات، وفق ما جزم كارل ماركس ذات مرة، إنما أفكارها وحقيقة مخاطبتها لاهتمامات أعداد كبيرة من الناس العاديين.
وفي الوقت الحاضر، تشكل الديمقراطية الليبرالية الأيديولوجية الأساسية في أنحاء كثيرة من العالم، ومرد ذلك جزئياً إلى كونها تتيسر من طريق هياكل اجتماعية اقتصادية معينة وتستجيب لها. وقد يكون للتغييرات في هذه الهياكل عواقب أيديولوجية، مثلما قد يكون للتغييرات الأيديولوجية عواقب اجتماعية واقتصادية.
فمنذ مطلع التاريخ وحتى الأعوام الـ300 الماضية، انطبعت المجتمعات البشرية بأفكار قوية ذات طبيعة دينية، مع استثناء مهم للكونفوشيوسية في الصين. وشكلت الليبرالية أول أيديولوجية علمانية رئيسة يكون لها تأثير دائم على صعيد العالم كله.
وقد ارتبط ظهورها بظهور الطبقة الوسطى التجارية أولاً [في القرنين الخامس والسادس عشر]، ثم الطبقة الوسطى الصناعية في أنحاء محددة من أوروبا إبان القرن السابع عشر (وأعني بمصطلح “الطبقة الوسطى” مجموعة الأشخاص الذين هم في منتصف السلم الاجتماعي ما بين الطبقتين العليا والدنيا من حيث الدخل، والذين تلقوا تعليماً ثانوياً في الأقل، ويمتلكون عقارات أو سلعاً معمرة أو مشاريع خاصة).
وبحسب المفكرين الكلاسيكيين، أمثال لوك ومونتسكيو وميل، تنص الليبرالية على أن شرعية سلطة الدولة تنبع من قدرتها على حماية الحقوق الفردية لمواطنيها، وسيادتها محكومة بالالتزام الصارم بالقانون [جون لوك مفكر إنجليزي من القرن السابع عشر. اشتهر بدفاعه عن الحرية الفردية والليبرالية الاقتصادية، ومعاداة لفكرة السلطة القوية للحاكم. اشتهر القاضي الفرنسي تشارلز مونتسكيو (1689- 1755) بعمله “روح الشرائع” الذي صاغ فيه فكرة الدستور باعتباره أساس الدولة وبالفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. عاش المفكر الإنجليزي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر. وعرف بأفكاره عن الليبرالية والنفعية].
ومن بين الحقوق الأساسية الواجب حمايتها، تأتي الملكية الخاصة في الطليعة. وقد مثلت “الثورة المجيدة” في إنجلترا بين عامي 1688 و1689، مرحلة حاسمة في تطور الفكر الليبرالي المعاصر، نظراً إلى إرسائها دعائم المبدأ الدستوري القائل إنه لا ينبغي على أي دولة من الدول فرض ضرائب مشروعة على شعبها من دون أخذ موافقته عليها.
في البداية، لم تكن الليبرالية مرادفاً ثابتاً للديمقراطية. ففيما تكونت غالبية اليمينيين المؤيدين للتسوية الدستورية لعام 1689 [أي حركة الـ”ويغز”] من أثرى أثرياء العقارات في إنجلترا، لم يمثل البرلمان سوى أقل من 10 في المئة من مجموع السكان.
وقد شكك عديد من الليبراليين الكلاسيكيين، بمن فيهم ستيوارت ميل، بشدة في فضائل الديمقراطية، إذ اعتقدوا أن المشاركة السياسية المسؤولة تتطلب خلفية تعليمية وحصة في المجتمع، أو بمعنى أصح، ملكية ممتلكات. وحتى نهاية القرن التاسع عشر، ظلت الامتيازات في جميع أنحاء أوروبا تقريباً منوطة بالممتلكات والمتطلبات التعليمية للأفراد.
ومع انتخاب أندرو جاكسون رئيساً للولايات المتحدة في 1828، تبدّلت مجريات الأمور، وتحقق أول انتصار مهم ومبكر لمفهوم قوي عن الديمقراطية القوية على خلفية قرار إلغاء متطلبات الملكية للتصويت، أقله بالنسبة إلى الذكور البيض.
وفي أوروبا، شقت الماركسية طريقها إلى الواجهة مستفيدة من إقصاء السواد الأعظم من السكان عن السلطة السياسية وصعود طبقة عاملة صناعية. وحينما صدر بيان الحزب الشيوعي في 1848، كانت الثورات متفشية في كبرى الدول الأوروبية، باستثناء المملكة المتحدة.
وقد أذن صدور ذلك البيان ببدء قرن طويل من المنافسة الشرسة على قيادة الحركة الديمقراطية بين الشيوعيين المستعدين للتخلي عن الديمقراطية الإجرائية (انتخابات متعددة الأحزاب) لمصلحة ما اعتقدوا أنه ديمقراطية جوهرية (إعادة التوزيع الاقتصادي) من جهة، والديمقراطيين الليبراليين المؤمنين بتوسيع نطاق المشاركة السياسية مع الحفاظ على سيادة القانون التي تحمي الحقوق الفردية، بما في ذلك حقوق الملكية، من جهة أخرى.
آنذاك، وضع ولاء الطبقة العاملة الصناعية الجديدة في كفة الميزان. وقد توهم الماركسيون الأوائل الفوز على أساس القوة المطلقة للأرقام. فمع توسع الامتيازات في أواخر القرن التاسع عشر، اتخذت بعض الأحزاب، على شاكلة “حزب العمال” في المملكة المتحدة و”الديمقراطيين الاجتماعيين” في ألمانيا، خطوات عملاقة هددت سطوة المحافظين والليبراليين التقليديين. وواجهت الطبقة العاملة مقاومة عنيفة، باستخدام وسائل غير ديمقراطية أحياناً كثيرة. وتخلى الشيوعيون وعديد من الاشتراكيين عن الديمقراطية الشكلية مقابل الاستيلاء المباشر على السلطة.
وعلى امتداد النصف الأول من القرن العشرين، أجمع اليساريون التقدميون على أن بعض أشكال الاشتراكية، من قبيل سيطرة الحكومة على مفاتيح قيادة الاقتصاد لضمان التوزيع العادل للثروات، يشكل أمراً محتماً بالنسبة إلى الدول المتقدمة على اختلافها.
وفي كتابه الصادر عام 1942 بعنوان “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” Capitalism، Socialism and Democracy، وصل الخبير الاقتصادي المحافظ جوزيف شومبيتر إلى حد تأكيد خروج الاشتراكية منتصرة لسببين، يتمثل أولهما في عدم جدوى المجتمع الرأسمالي ثقافياً، ويستند ثانيهما إلى تمثيل الاشتراكية لإرادة الغالبية الساحقة من الناس في المجتمعات الحديثة ومصالحها.
وحتى حينما تخبطت الساحتان السياسية والعسكرية بصراعات القرن العشرين الأيديولوجية الكبرى، شهدت الساحة الاجتماعية تغييرات حاسمة. وقد ضربت تلك التغييرات بالسيناريو الماركسي عرض الحائط. في المقام الأول، استمرت مستويات المعيشة الحقيقية للطبقة العاملة الصناعية في الارتفاع لدرجة مكنت عدداً كبيراً من العمال أو أطفالهم من الارتقاء إلى الطبقة الوسطى.
وفي المقام الثاني، توقفت الطبقة العاملة عن الاتساع، واتخذت مساراً تنازلياً، لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، حينما بدأت الخدمات تحل محل السلع الصناعية في ما كان يعرف باقتصادات “ما بعد الصناعة”.
وفي المقام الأخير، برزت تحت الطبقة العاملة الصناعية طبقة جديدة من الفقراء أو المحرومين، تكوّنت من نسيج غير متجانس من الأقليات العرقية والإثنية والمهاجرين الجدد والفئات المهمشة اجتماعاً، كالنساء والمثليين والمعاقين.
وبمقتضى تلك التغييرات، أمست الطبقة العاملة القديمة في معظم المجتمعات الصناعية، مجرد مجموعة مصالح محلية تستخدم القوة السياسية للنقابات العمالية في الحفاظ على المكاسب التي تحققت بشق الأنفس في حقبة سابقة.
إضافة إلى كل ما سبق ذكره، اتضح جلياً أن الطبقة الاقتصادية ليست لواءً عظيماً تنضوي تحته شعوب الدول الصناعية المتقدمة من أجل العمل السياسي. وفي 1914، تلقت الأممية الثانية أو الأممية الاشتراكية الأصلية دعوة فظة لليقظة على خلفية تجاهل الطبقات العاملة في أوروبا نداءات الحرب الطبقية والتفافها حول القادة المحافظين الذين يرفعون الشعارات القومية.
ولا يزال هذا النمط من السلوكيات موجوداً حتى اليوم، وقد حاول ماركسيون كثر تفسيره في ما وصفه الباحث المعاصر إرنست غيلنر بـ”نظرية العنوان الخطأ”. ووفق غيلنر “مثلما يعتقد الشيعة المتطرفون أن رئيس الملائكة جبرائيل أخطأ في النزول بالوحي على محمد بدلاً من علي، كذلك يفضل الماركسيون الاعتقاد أن روح التاريخ أو الوعي البشري ارتكب خطأً بريدياً فادحاً بتسلميه دعوة اليقظة المخصصة للطبقات إلى الأمم” [اشتهر المفكر الإنجليزي التشيكي إرنست غيلنر (1925-1995) بميله إلى العقلانية النقدية المعاصرة، وجدد التفكير في القومية، وأبدى اهتماماً كبيراً بالمجتمعات الإسلامية وتاريخها].
ومضى غيلنر في المحاججة بأن الدين يؤدي وظيفة مماثلة للقومية في الشرق الأوسط المعاصر، كونه يجمع الناس بفاعلية حول محتوى روحي وعاطفي غير موجود عند الوعي الطبقي. وأضاف غيلنر أنه مثلما كانت القومية الأوروبية مدفوعة بنزوح الأوروبيين من الريف إلى المدن في أواخر القرن التاسع عشر، كذلك تمثل الإسلاموية اليوم، رد فعل على عمليات التمدن والتهجير التي تشهدها مجتمعات الشرق الأوسط المعاصرة. واعتبر غيلنر أنه في ظل الوضع الحاضر، يكون من الصعب أن تعرف رسالة ماركس طريقها يوماً إلى العنوان المحدد لها والمسمى “طبقة”.
وفي ملمح آخر، لقد ظن ماركس أن الطبقة الوسطى، أو على الأقل الشريحة المالكة لرأس المال التي أطلق عليها البرجوازية، ستظل دائماً أقلية صغيرة ومتميزة في المجتمعات الحديثة، لكن ما حصل بالفعل هو أن البرجوازية والطبقة الوسطى عموماً استأثرت بالغالبية الساحقة من السكان في معظم العالم المتقدم، الأمر الذي تسبب للاشتراكية بمشكلات جمة.
منذ أيام أرسطو، تصور المفكرون أن الديمقراطية المستقرة تعتمد على طبقة وسطى كبيرة، والمجتمعات التي ترزح تحت سنابك الفقر والثراء الفاحش تتعرض إما للهيمنة الأوليغارشية أو الثورة الشعبوية. وحينما نجح شطر واسع من الدول المتقدمة في إنشاء مجتمعات الطبقة الوسطى، تلاشت جاذبية الأيديولوجية الماركسية، وخسر التطرف اليساري موقعه كقوة نافذة، إلا في بعض المناطق غير المتساوية مع سواها في العالم، كأجزاء من أميركا اللاتينية ونيبال والمناطق المعدمة في شرق الهند.
وقد لاحظ العالم السياسي صامويل هنتنغتون ما سماه “الموجة الثالثة” من التحول الديمقراطي العالمي، وقد بدأت في جنوب أوروبا خلال سبعينيات القرن العشرين وبلغت ذروتها إبان سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية عام 1989.
ورأى هنتنغتون أن “الموجة الثالثة” أفضت إلى زيادة عدد الديمقراطيات الانتخابية حول العالم من 45 ديمقراطية تقريباً في 1970 إلى أكثر من 120 ديمقراطية مع حلول أواخر التسعينيات من القرن العشرين [يعتبر صامويل هنتنغتون (1927-2008) من أبرز المفكرين الأميركيين في القرن العشرين، وترك تأثيراً كبيراً في الفكر والسياسة المعاصرين. ذاع صيت نظريته عن صدام الحضارات التي أثارت نقاشات وتأثيرات ما زالت تتفاعل حتى الآن].
كذلك أدى النمو الاقتصادي إلى ظهور طبقات وسطى جديدة في البرازيل والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وتركيا. ووفقاً للخبير الاقتصادي مويسيس نايم، تضم تلك الطبقات الوسطى أفراداً متعلمين نسبياً، يحوزون ممتلكات ويرتبطون تقنياً بالعالم الخارجي ويصرون على مطالبة حكوماتهم بالحقوق التي يستحقونها ويحتشدون بسهولة نتيجة وصولهم إلى التكنولوجيا.
وبناءً عليه، لا عجب من أن يكون المحرضون الرئيسون على ثورات “الربيع العربي” من التونسيين والمصريين، هم المتعلمون ممن أحبطت الديكتاتوريات التي يعيشون في كنفها توقعاتهم في شأن الوظائف والمشاركة السياسية. [تركزت أعمال الكاتب والصحافي الفنزويلي مويسيس نايم (من مواليد طرابلس الليبية في 1952) على الصراعات الاجتماعية المعاصرة وعلاقاتها بالسياسة العالمية. وتولى مناصب وزارية في بلاده، وهو زميل مميز في “صندوق كارنيغي للسلام العالمي].
ومن حيث المبدأ، لا يدعم أفراد الطبقة الوسطى الديمقراطية بالضرورة، إذ لا يختلفون عن الآخرين في كونهم جهات فاعلة تعمل لمصلحتها الشخصية ولا تعبأ بأي شيء سوى حماية ممتلكاتها ومراكزها. وفي بلدان كالصين وتايلاند، يشعر عديدون من أفراد الطبقة الوسطى بالتهديد جراء مطالب الفقراء بإعادة التوزيع الاقتصادي، بالتالي نراهم يرصون الصفوف خلف حكومات استبدادية تحافظ على مصلحتهم الطبقية. وكذلك فإنه ليس صحيحاً أن الديمقراطيات تلبي حتماً تطلعات طبقاتها الوسطى خشية إثارة سخط هذه الأخيرة وامتعاضها.
هل من بديل أقل سوءاً؟
ثمة توافق عريض اليوم حول شرعية الديمقراطية الليبرالية، أقله من حيث المبدأ. ووفق تعبير الخبير الاقتصادي أمارتيا سين، “صحيح أن الديمقراطية لا تمارس عالمياً، ولم تنل بعد قبولاً موحداً، لكن المناخ العام العالمي يسلم بصوابية الحوكمة الديمقراطية عموماً”.
إن القبول الواسع الذي تحظى به الديمقراطية في البلدان التي وصلت إلى مستويات كافية من الازدهار المادي تتيح لأكثرية مواطنيها تصنيف أنفسهم بوصفهم من الطبقة الوسطى، بالتالي يشكل ذلك السبب وراء وجود ارتباط بين الديمقراطية المستقرة وارتفاع مستويات التنمية. [نال المفكر الهندي الذي يحمل هوية بنغلاديش شرفياً، شهرة كبرى بعد إحرازه جائزة نوبل للاقتصاد في 1998. عرف بنظريته عن الاستثمار في التنمية البشرية، مركزاً على ضرورة محاربة المجاعة].
وفي بعض المجتمعات، على غرار المجتمع الإيراني، ترفض الديمقراطية الليبرالية جملة وتفصيلاً لمصلحة أحد أشكال الثيوقراطية الإسلامية. في المقابل، تقف تلك الأنظمة في جوهرها حجر عثرة أمام التنمية، والحقيقة أن تلك المجتمعات ما كانت لتستمر لولا امتلاكها ثروة نفطية هائلة. وفي وقت من الأوقات، كان هناك استثناء عربي كبير من “الموجة الثالثة”.
وفي المقابل، بين اندلاع ثورات “الربيع العربي” للعالم أن استعداد الشعوب العربية للتحرك والانقلاب على الديكتاتورية لا يقل عن استعداد شعوب أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية. وهذا لا يعني أبداً أن الطريق إلى ديمقراطية حسنة الأداء سيكون سهلاً أو مباشراً في تونس أو ليبيا، بل يعني أن ثقافة الحرية السياسية والمشاركة في المعترك السياسي ليست حكراً على الأوروبيين والأميركيين.
ويأتي التحدي الأشد خطراً على الديمقراطية الليبرالية في العالم اليوم من الصين التي تجمع بين الحكم الاستبدادي والاقتصاد الذي يخضع جزئياً لعوامل السوق. فعلى مدار أكثر من ألفي عام، توالت على الصين سلسلة طويلة وفخورة من الحكومات البيروقراطية الرفيعة المستوى.
وقد عرف القادة الصينيون كيف يحولوها من اقتصاد موجه مركزياً على النمط السوفياتي إلى اقتصاد ديناميكي مفتوح، لا بل وفعلوا ذلك بكفاءة عالية جداً، تتجاوز، بصراحة، كفاءة القادة الأميركيين في إدارة سياساتهم المتعلقة بالاقتصاد الكلي في الآونة الأخيرة.
وفي الوقت الراهن، يستحوذ النظام الصيني على إعجاب كثيرين بفضل سجله الاقتصادي الحافل وقدرته على اتخاذ قرارات سريعة ومهمة ومعقدة، وتفوقه بالتالي على الولايات المتحدة وأوروبا اللتين أصيبتا بشلل سياسي مؤلم خلال السنوات القليلة الماضية. ومنذ الأزمة المالية الأخيرة، بدأ الصينيون أنفسهم بالترويج لـ”النموذج الصيني” كي يكون بديلاً عن الديمقراطية الليبرالية.
في المقابل، من غير المرجح أن يمسي هذا النموذج بديلاً جدياً عن الديمقراطية الليبرالية في مناطق خارج شرق آسيا. ويعزى ذلك إلى أسباب مختلفة تشمل أولاً، أن ذلك النموذج يكتسي بمواصفات ثقافية خاصة [بالصين]، إذ تستمد الحكومة الصينية شرعيتها من تقليد طويل من التوظيف على أساس الجدارة وامتحانات الخدمة المدنية، ومن تركيز شديد على التعليم والإذعان للسلطة التكنوقراطية، بالتالي لا يمكن سوى لقلة قليلة من الدول النامية محاكاة هذا النموذج، على نحو ما فعلت سنغافورة وكوريا الجنوبية اللتان كانتا داخل المنطقة الثقافية الصينية (أقله في مرحلة سابقة). ثانياً، يشكك الصينيون أنفسهم في إمكانية تصدير نموذج بلادهم، خصوصاً أن ما يعرف بإجماع بكين هو بدعة غربية، لا صينية. [يشير ذلك إلى وجود موافقة واسعة على السلطة من قبل فئات شعبية متنوعة].
واستكمالاً، ليس من الواضح مدى قابلية النموذج البديل للاستمرار. فلا النمو المدفوع بالتصدير ولا النهج المتدرج سيواصلان تحقيق نتائج جيدة إلى ما لا نهاية. وحقيقة أن الحكومة الصينية لم تسمح بمناقشة مفتوحة للحادث الكارثي الذي تعرضت له السكك الحديدية العالية السرعة الصيف الماضي، ولم تلاحق الوزارة المسؤولة عنه، توحي بوجود قنابل موقوتة أخرى مخبأة وراء واجهة فاعلية صنع القرار.
وأخيراً، يتوقع للصين أن تواجه انحطاطاً أخلاقياً كبيراً في المستقبل، إذ لا تجبر الحكومة الصينية على احترام الكرامة الأساسية للمواطنين. ومع كل أسبوع جديد، تنشب احتجاجات جديدة في شأن مصادرة أراضي أو انتهاكات بيئية أو ارتكابات فساد جسيمة لمديرين ومسؤولين.
وفي خضم النمو السريع الذي تشهده البلاد حاضراً، من الممكن جداً إغفال هذه الانتهاكات وإسدال الستارة عليها، لكن النمو السريع لن يدوم إلى الأبد. وسيتعين على الحكومة في يوم من الأيام أن تدفع الثمن وتتعامل مع انفجارات الغضب المكبوت. ففي النهاية، لم يعد لدى النظام أي نموذج إرشادي يقتدي به بعد أن تحولت إدارته إلى حزب شيوعي يفترض أنه ملتزم بالمساواة، لكنه يقود مجتمعاً يتسم بانعدام مساواة متنام ومفرط.
إذاً، لا يمكن اعتبار استقرار النظام الصيني من المسلمات. وتؤكد الحكومة الصينية أن مواطنيها مختلفون ثقافياً وسيفضلون دائماً الديكتاتورية الخيرة المعززة للنمو على الديمقراطية الفوضوية التي تهدد الاستقرار الاجتماعي، إلا أنه من غير المحتمل أن تتصرف الطبقة الوسطى المنتشرة في أرجاء الصين بطريقة مختلفة عن قريناتها في مناطق أخرى من العالم. ولربما تحاول بقية الأنظمة الاستبدادية السير على خطى الصين ومحاكاة نجاحها، لكن الفرصة ضئيلة في أن تبدو ملامح كثير من دول العالم بعد 50 عاماً شبيهة بملامح الصين اليوم.
مستقبل الديمقراطية
ثمة ارتباط عام بين النمو الاقتصادي والتغير الاجتماعي وهيمنة الديمقراطية الليبرالية في العالم حاضراً. وفي هذا الوقت، لا تلوح في الأفق أيديولوجية منافسة منطقية ومقنعة. في المقابل، إذا استمرت بعض الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية المقلقة للغاية، فستهدد استقرار الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة، وتطيح الأيديولوجية الديمقراطية في مفهومها الآني.
وقد أكد ذلك عالم الاجتماع بارينغتون مور عبر الإشارة إلى أنه “لا بورجوازية، لا ديمقراطية”. وتزايد يقينه بذلك مع عدم حصول الماركسيين على المدينة الفاضلة التي يتوقون إليها، لأن الرأسمالية الناضجة أنتجت مجتمعات قوامها الطبقة الوسطى، بدلاً من أن تنتج مجتمعات الطبقة العاملة، لكن ماذا لو أدت عمليات العولمة والتطور التكنولوجي المتواصلة إلى خلخلة الطبقة الوسطى، وجعلت من المتعذر لسوى أقلية من مواطني المجتمعات المتقدمة التوصل إلى وضع الطبقة الوسطى؟ [عاش بارينغتون مور بين عامي 1913 و2005، وعرف بتوسعه في علم الاجتماع، خصوصاً عمله عن الجذور الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية].
ثمة بالفعل أدلة وفيرة على أن هذه المرحلة من التطور قد بدأت. فمنذ سبعينيات القرن العشرين ومتوسط الدخل في الولايات المتحدة في حالة ركود من حيث القيمة الحقيقية، لكن تحول معظم الأسر الأميركية نحو الدخل المزدوج [من الرجل والمرأة سوية] على مدار الجيل الماضي خفف من وطأة الآثار الاقتصادية لهذا الركود.
ومع التردد العام في الانخراط في عملية إعادة توزيع مباشرة للدخل، وفق ما يبين الخبير الاقتصادي راغورام راجان بشكل مقنع، لجأت الولايات المتحدة إلى أسلوب غير فاعل وغاية في الخطورة، تمثل في دعم القروض العقارية للأسر ذات الدخل المنخفض. [أدار الخبير الاقتصادي الهندي راغورام راجان (من مواليد 1963) البنك المركزي في بلاده بين عامي 2013 و2016. واهتم بمسألة التفاوت الاقتصادي بأبعادها المتنوعة. وقدم أفكاراً نقدية عن مسارات العولمة].
وبفضل هذا الاتجاه الذي يسرته تدفقات السيولة من الصين ودول أخرى، توهمت شريحة كبيرة من المواطنين الأميركيين بأن مستويات معيشتها قد ارتفعت باضطراد خلال العقد الماضي. وعند هذا الحد، لم يكن انفجار فقاعة الإسكان في 2008 و2009 أكثر من ارتداد حاد إلى المتوسط. ولعل الأميركيين اليوم يستفيدون من الهواتف المحمولة الرخيصة والملابس البخسة و”فيسبوك”، لكنهم ما عادوا قادرين على تحمل نفقات منازلهم أو الاشتراك في التأمين الصحي أو الحصول على معاشات مريحة عند التقاعد.
ومن وجهة نظر المستثمر الرأسمالي بيتر ثاييل والخبير الاقتصادي ستايلر كوين، لا شيء أسوأ من أن تزايد فوائد أحدث موجات التقدم التكنولوجي، حدث بطريقة لم تكن متناسبة مع أعداد المتعلمين والموهوبين في المجتمع، فتسبب باتساع فجوة عدم المساواة في الولايات المتحدة على مدار الجيل الماضي. [أسس الأميركي بيتر ثاييل، المولود في 1967، موقع “باي بال” للتبادلات المالية عبر الإنترنت، ويعتبر من كبار المستثمرين في تقنيات المعلوماتية. وتمحور كتابه “من الصفر إلى الواحد” حول الملكية الفكرية وأهمية الشركات العملاقة]. [ينتمي الصحافي والكاتب الأميركي المعاصر ستايلر كوين (مولود في نيوجرسي، 1962) إلى المدرسة النيوليبرالية في الاقتصاد التي ازدهرت في ثمانينيات القرن العشرين، خصوصاً مع تبني إدارة الرئيس رونالد ريغن لها].
وقد أضيف إلى ذلك ارتفاع نصيب الواحد في المئة الذي تشكله الأسر الأميركية الأكثر ثراءً، من إجمالي الناتج المحلي إلى 23.5 في المئة في 2007، بينما كان نصيبها 9 في المئة في 1974.
ولربما عجلت السياسات التجارية والضريبية الخطى نحو هذا الاتجاه، لكن المذنب الحقيقي في ذلك الصدد هو التكنولوجيا. فإبان المراحل الأولى من التحول الصناعي، أي مراحل إنتاج المنسوجات والفحم والصلب ومحركات الاحتراق الداخلي تحديداً، اعتادت فوائد التغييرات التكنولوجية أن تتدفق إلى مختلف شرائح المجتمع في هيئة وظائف، ولكن هذا ليس واحداً من الحقائق الثابتة التي لا تتغير، والدليل على ذلك أننا نعيش حالياً في ما وصفته الباحثة شوشانا زوبوف بــ”عصر الآلة الذكية”، بالأحرى عصر التكنولوجيا القادرة أكثر فأكثر على الاضطلاع بمجموعة أكبر وأهم من الوظائف البشرية. ومع كل تقدم كبير تحرزه شركات “وادي السيليكون” [تجمع مقار الشركات الكبرى في المعلوماتية والاتصالات المتطورة]، يضيع على الاقتصاد مروحة كبيرة من الوظائف التي تتطلب مهارات بسيطة. وهذا الوضع ليس بجديد ولا يبدو أنه سينتهي في أي وقت قريب. [تهتم الأميركية شوشانا زوبوف، من مواليد سنة 1951، بالسيكولوجيا الاجتماعية وعلاقتها مع الاقتصاد المعاصر، بما في ذلك الاقتصاد الرقمي].
تاريخياً، لطالما وجدت اللامساواة ولطالما نتجت من الفوارق الطبيعية في المواهب والشخصيات، لكن في السياق التكنولوجي الحالي، لم تبقَ هذه الفوارق على حالها، بل كثرت وتعاظمت درجتها. وبعد أن كانت فرص أصحاب المهارات الحسابية الرفيعة نادرة في مجتمعات القرن التاسع عشر الزراعية، باتت وفيرة اليوم وباتت كل المجالات مفتوحة أمام هؤلاء كي يصبحوا مديرين ماليين أو مهندسي برمجيات، ويجنوا حصة أكبر من الثروة الوطنية.
وفي سياق متصل، تمثل العولمة العامل الآخر المزعزع لمداخيل الطبقة الوسطى في البلدان المتقدمة. فمع تخفيض كلفة النقل والاتصالات وانضمام مئات الملايين من العمال الجدد في البلدان النامية إلى قوة العمل العالمية، أضحت كلفة الأعمال التي اعتادت الطبقة الوسطى القديمة في العالم المتقدم النهوض بها، أقل بكثير في أماكن أخرى.
وفي ظل نموذج اقتصادي يعطي الأولوية لتعظيم الدخل الإجمالي، سيكون تعهيد الوظائف إلى الخارج أمراً لا مناص منه. [يستند التعهيد إلى فكرة أداء وظائف أو صنع سلع مادية أو فكرية، في بلاد تضم أيد عاملة كفؤة وماهرة ومتطورة علمياً وتقنياً، لكنها رخيصة وتكلف أقل من نظيراتها في البلدان الغربية].
ومن أجل احتواء الأضرار وإنقاذ الموقف، كان من الممكن اتباع أفكار وسياسات أكثر ذكاءً، على غرار ما فعلت ألمانيا حينما أمنت الحماية اللازمة لجزء كبير من قاعدتها التصنيعية وعمالتها الصناعية من دون أن تفرط بقدرة شركاتها على المنافسة عالمياً.
في المقابل، تبنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اقتصاد الخدمات لمرحلة ما بعد التصنيع. وتحولت التجارة الحرة إلى نظرية أكثر منها أيديولوجية. فحينما حاول أعضاء الكونغرس الأميركي فرض عقوبات تجارية على الصين رداً على إبقائها عملتها مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، اتهموا بسخط بالحمائية، وكأن الأرضية المشتركة بين الأطراف هي متكافئة بالفعل.
وفي أعقاب ذلك، برزت أحاديث إيجابية كثيرة عن عجائب اقتصاد المعرفة وإمكانية استبدال وظائف التصنيع القذرة والخطيرة بعمالة أشخاص مبدعين وذوي كفاءات عالية. ولم تكن تلك الأحاديث سوى ستار صفيق هدفه التستر على الحقائق المؤكدة لانحسار التصنيع والتغاضي عن عدم تناسب فوائد النظام الجديد مع العدد الضئيل للأشخاص المعنيين بالتمويل والتكنولوجيا المتقدمة، بوصفها مصالح سائدة في وسائط الإعلام والمحادثات السياسية العامة.
رئيس مجموعة اداني غروب يتحدث في مؤتمر صحافي بمدينة احمد اباد. إنه البليونير المقرب من رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وقد حاول شراء معلق تلفزيوني يعتبر اخر كبار المنتقدين على التلفزيون وأثارت محاولة شرائه مخاوف بشأن حرية الاعلام في اكبر ديمقراطية في الع
اليسار الغائب
تعد إحد أكثر السمات المحيرة للعالم في أعقاب الأزمة المالية، هي أن الشعبوية اتخذت أساساً جناحاً يمينياً لها، ولم تنح صوب اليسار.
ومثلاً، في الولايات المتحدة، يصوت أعضاء “حزب الشاي” للسياسيين المحافظين الذين يخدمون مصالح الممولين وأقطاب الشركات التي يزعمون أنهم يحتقرونها، على الرغم من معاداتهم للنخبوية في خطاباتهم. وهناك تفسيرات عدة لهذه الظاهرة، نذكر من بينها الإيمان الراسخ بتكافؤ الفرص عوضاً عن تكافؤ النتائج، والتقاطع بين القضايا الاقتصادية من جهة، والقضايا الثقافية كالإجهاض وحق حيازة السلاح.
من جهة أخرى. [يشكل “حزب الشاي” أحد المكونات في يمين الحزب الجمهوري. ويعرف برفضه للعولمة، وتشديده على تقليص دور الدولة في المجتمع والاقتصاد. ومع انطلاقته في 2009، ركز على معاداة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما].
بيد أن السبب الأعمق في عدم ظهور يسار شعبوي عريض القاعدة، هو سبب فكري. كيف لا وقد مرت عقود طويلة مذ تمكنت أي جهة يسارية من صياغة، أولاً، تحليل مترابط لما تتعرض له بنية المجتمعات المتقدمة أثناء مرورها في مرحلة تغير اقتصادي، وثانياً، أجندة واقعية يؤمل أن تكون درع حماية لمجتمع الطبقة الوسطى.
وبصراحة، على مدى الجيلين الماضيين، كانت توجهات الفكر اليساري الرئيسة كارثية، سواء على مستوى الأطر المفاهيمية أو أدوات التعبئة. لقد ولت والماركسية منذ سنوات طويلة ومن من مناصريها القلائل لا يزال حياً، فإنه حتماً من عجائز دور المسنين. فمن بعد الماركسية، حول اليسار الأكاديمي اهتمامه نحو ما بعد الحداثة والتعددية الثقافية والنسوية والنظرية النقدية وسواها من النزعات الفكرية المبعثرة التي تسلط جام تركيزها على الثقافة عوضاً عن الاقتصاد.
وفي ذلك الصدد، تتمثل نقطة الانطلاق في أفكار ما بعد الحداثة بإنكار إمكانية وجود أي سردية مهيمنة في التاريخ أو المجتمع، وهو ما يوهن سلطتها كصوت معبر عن المواطنين الذين يشعرون بخيانة أهل النخبة لهم. كذلك تشدد التعددية الثقافية على منطق الضحية الذي تنتهجه كل مجموعة خارجية تقريباً. وفي كنف مثل هذا التحالف المتنافر، من غير الوارد، إن لم يكن مستحيلاً، إنشاء حركة تقدمية جماهيرية. ويرجع ذلك إلى غالبية ضحايا النظام من مواطني الطبقتين الوسطى والعاملة هم محافظون ثقافياً وسيشعرون بالحرج من الوجود في حضرة أمثال أولئك الحلفاء.
وبصرف النظر عن المبررات النظرية التي تستند إليها أجندته، تبقى مشكلة اليسار الكبرى هي الافتقار إلى الصدقية. ففي غضون الجيلين الماضيين، اعتمد التيار الرئيس في اليسار برنامجاً ديمقراطياً اجتماعياً يتمحور حول توفير الدولة مجموعة متنوعة من الخدمات، في مقدمتها المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية والتعليم.
لكن هذا النموذج من البرامج بات مستهلكاً الآن. لماذا؟ لأن دول الضمان الاجتماعي صارت متضخمة وبيروقراطية وغير مرنة، وغالباً ما تخضع لسيطرة المنظمات التي تديرها عبر نقابات القطاع العام. والأهم من ذلك، أن دولة الضمان الاجتماعي باتت غير مستدامة مالياً بالنظر إلى تزايد شيخوخة السكان في كل مكان تقريباً في العالم المتقدم. واستناداً إلى ذلك، من الطبيعي أن تتخلى الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية عن طموحاتها حينما تصل إلى السلطة، وتكتفي بحماية دول الضمان الاجتماعي التي أنشئت قبل عقود، بدلاً من السعي بجهد لتنفيذ أجندة جديدة ومثيرة قادرة على حشد الجماهير.
أيديولوجية المستقبل
تخيلوا لوهلة أن كاتباً مغموراً من كتاب عصرنا هذا يقبع داخل حجرة في مكان ما، ويحاول وضع الخطوط العريضة لأيديولوجية المستقبل التي ستتضمن مساراً واقعياً نحو عالم يضم ديمقراطيات متينة ومجتمعات سليمة للطبقة الوسطى. فما الذي ستكون عليه تلك الأيديولوجية؟
من الضروري أن تنطوي على شقين كحد أدنى، أحدهما سياسي، والآخر اقتصادي. في الشق السياسي، ستحتاج الأيديولوجية الجديدة إلى إعادة تأكيد سيادة السياسة الديمقراطية على الاقتصاد وإضفاء الطابع الشرعي على حكومة جديدة تعبر عن المصلحة العامة.
وللحفاظ على بقاء الطبقة الوسطى، ستحتاج إلى طرح أجندة تشمل أكثر من الآليات الموجودة فعلاً في دول الضمان الاجتماعي، مع إعادة تصميم القطاع العام بطريقة تحرره من اعتماده على أصحاب المصلحة الحاليين، وتعول على مقاربات جديدة مدعومة بالتكنولوجيا لتقديم الخدمات. وسيكون على تلك الأيديولوجية الجديدة أن تناقش صراحة عملية إعادة توزيع الثروة والدخل وخريطة الطريق الواقعية التي ستنهي بها سطوة مجموعات المصالح على السياسة.
وفي الشق الاقتصادي، لا ينبغي أن تبدأ الأيديولوجية بإدانة الرأسمالية كأنما الاشتراكية القديمة لا تزال بديلاً مجدياً وصالحاً للتطبيق. إننا الآن بصدد تنوع الرأسمالية والدرجة التي يتعين أن تساعد بها الحكومات المجتمعات على التكيف مع التغيير.
وفيما يتعلق بالعولمة، لا ينبغي أن تنظر الأيديولوجية الجديدة إليها بوصفها حقيقة ثابتة في الحياة، إذ يتوجب أن تنظر إلى العولمة كتحد وفرصة تلزمهما رقابة سياسية دقيقة. وفيما يخص الأسواق، فسيكون على الأيديولوجية الجديدة ألا تعتبرها في غاية حد ذاتها، بل إن تقدر التجارة والاستثمار العالميين بالتوازي مع مدى مساهمتهماً في ازدهار الطبقة الوسطى وزيادة الثروة الوطنية الإجمالية.
في المقابل، ليس من الممكن الوصول إلى هذه المرحلة من دون نقد جدي وحثيث لأكثرية صرح الاقتصادات الكلاسيكية الجديد [= النيوليبرالية]، بدءاً من الافتراضات الأساسية كسيادة الخيارات التفضيلية للأفراد، واعتماد الدخل الإجمالي مقياساً دقيقاً للرفاه الوطني.
وبموجب هذا النقد، لا بد من الإشارة إلى أن مداخيل الناس لا يمثل بالضرورة مساهمتهم الحقيقية في المجتمع، وأن اتسام سوق العمل بالكفاءة لا يضمن توزيعاً طبيعياً عادلاً للمواهب، وأن الأفراد ليسوا كيانات سيادية، بل كائنات شديدة التأثر بمجتمعاتها.
واستطراداً، إن معظم هذه الأفكار موجودة منذ بعض الوقت، كل ما في الأمر أنها متناثرة وعلى ذلك الكاتب المغمور أن يلملمها ويجمعها في حزمة متماسكة مع تجنب مشكلة “العنوان الخطأ”. وفي ما يخص مسألة نقد العولمة، يتحتم على ذلك الكاتب المغمور أن يربطها بالقومية بوصفها استراتيجية فعالة في التعبئة، ويحدد المصلحة الوطنية على نحو أكثر تعقيداً من حملات “اشتر ما هو أميركي” المعتمدة من قبل النقابات الأميركية مثلاً.
وبهذه الطريقة، سيكون المنتج النهائي توليفة من أفكار يسارية ويمينية لا تمت بصلة إلى أجندة المجموعات المهمشة التي تشكل الحركة التقدمية حاضراً. وستكون تلك الأيديولوجية الجديدة شعبوية بامتياز. وستبدأ رسالتها بنقد أهل النخبة الذين ضحوا بمنفعة الكثرة لمصلحة القلة، ثم يليه نقد مماثل لسياسات المال التي تفيد الغالبية الساحقة من الأثرياء، خصوصاً في واشنطن.
إن المخاطر التي تنطوي عليها مثل تلك الحركة واضحة وبديهية، إذ يمكن لتراجع الولايات المتحدة، بشكل خاص، عن تأييد نظام عالمي أكثر انفتاحاً أن يطلق العنان لسلسلة من ردود الفعل الحمائية في أماكن مختلفة من العالم. ففي مناح كثيرة، حققت ثورة ريغن – تاتشر النجاح الذي سعى مناصروها إليه، ما مهد السبيل أمام بلوغ عالم يزخر بالمنافسة والعولمة ويخلو من الاحتكاكات. [إشارة إلى السياسة المنسقة التي انتهجها الرئيس الأميركي رونالد ريغن ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في مطالع الثمانينيات من القرن العشرين. وركزت على النيوليبرالية الاقتصادية وتفكيك معطيات الضمان الاجتماعي وتقليص القطاع العام، ومهدت للعولمة].
وأثناء مسار تحقيق ثورة ريغن – تاتشر، تولدت ثروات طائلة وبزغت طبقات وسطى في جميع أنحاء العالم النامي وعمت الديمقراطية. وفي الوقت الراهن، ثمة إمكانية كبيرة لأن يكون العالم المتقدم على أعتاب اختراقات تكنولوجية ستزيد الإنتاجية وتوفر فرص عمل مجزية أمام عدد لا يحصى من أفراد الطبقة الوسطى.
في المقابل، لا تشكل الفكرة السابقة [في شأن وضعية العالم المتقدم] تعبيراً عن الواقع التجريبي المستمر منذ 30 عاماً والسائر في الاتجاه المعاكس، بقدر ما تشكل مسألة إيمان بتلك الفكرة. والحقيقة أن ثمة أسباباً كثيرة للاعتقاد أن حالات التفاوت وعدم المساواة ستزداد تردياً، لا سيما بعد أن أصبح تمركز الثروة في الولايات المتحدة بالفعل ظاهرة تدعم نفسها ذاتياً.
ووفق الخبير الاقتصادي سيمون جونسون، فقد استخدم القطاع المالي نفوذه في الضغط لتلافي أشكال تشريعية تكون أكثر صرامة وتقييداً له. ووفق جونسون، ولّد ذلك الضغط تأثيراً إيجابياً على مدارس الأثرياء التي تبدو في أفضل أحوالها اليوم، على نقيض المدارس العامة.
وفي غياب تعبئة ديمقراطية تتدارك الوضع وتصححه، يواصل أهل النخبة في كل المجتمعات استغلال وصولهم المتفوق إلى النظم السياسية بغية حماية مصالحهم. ولا تمثل النخبة الأميركية استثناءً من تلك القاعدة. [انضم الاقتصادي الأميركي سيمون جونسون، من مواليد 1963، إلى الفريق المشرف على عملية الانتقال الاقتصادي ضمن إدارة الرئيس جو بايدن. وحاز درجة الدكتوراه في الاقتصاد عن بحث تناول التضخم وتأثيره على الفاعلية الاقتصادية].
لن ترى تلك التعبئة الديمقراطية النور ما دامت الطبقات الوسطى في العالم المتقدم مفتونة بسردية الجيل الماضي عن أن مصالحها ستتحقق على أفضل وجه في إطار أسواق أكثر حرية ودول أصغر حجماً. ثمة سردية بديلة موجودة فعلاً، وتنتظر ولادتها.
* فرانسيس فوكوياما هو زميل أقدم في “مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون” في “جامعة ستانفورد” ومؤلف كتاب “أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسانية إلى الثورة الفرنسية” (The Origins of Political Order: From Prehuman Times to the French Revolution).
مترجم من فورين أفيرز
المادة الصحفية ترجمت ونقلت حرفيا من موقع عربي بوست وتعبر عن راي الكاتب