حرب اليمن الكارثية تُجبر الآباء على المُفاضلة في إنقاذ أبنائهم: من الأكثر حظاً للنجاة من الموت جوعاً؟
السياسية:
في مشهد من المشاهد المأساوية المتكررة للحرب في اليمن بشكل شبه يومي، كان أطفال المواطن اليمني محمد فليت يتضوّرون جوعاً، وأصغر اثنين منهم مريضان بالحمى التي تحرق جسديهما الصغيرين، بينما يجاهد صدراهما الهزيلان لالتقاط الأنفاس. لكن جيوب محمد كانت خاوية ورحلةٌ واحدة إلى المستشفى- الذي يبعد ثلاث ساعات، ستكلفه مبلغاً أكبر من الدخل الذي يجنيه في شهور.
تقول صحيفة The Independent البريطانية التي تروي قصة عائلة فليت، إن اليأس دفع هذا الأب للتوسّل إلى رجل أعمال محلي لإقراضه المال. فوافق الرجل على إقراضه 50 دولاراً- وهو المبلغ الكافي لسداد تكاليف سفر طفل واحد فقط إلى المدينة، بينما سيبقى الآخر في المنزل.
وبدا وكأنّ كل يومٍ جديد يحمل معه لمحمد إهانةً جديدة، وألماً جديداً، ومأزقاً لا مخرج منه. فهل يأكل نصيبه من فتات الطعام الذي تمتلكه عائلته، أم يصوم ليمنح كل طفلٍ لقمةً إضافية؟ أيجب أن يخرج للبحث عن عملٍ يعلم أنّه ليس موجوداً، أم يتسوّل القات- النبات المخدر الذي يمضغه الكثيرون في اليمن- ويُحاول بيعه مقابل أجرٍ زهيد؟
إذ مرض الصبي علي في البداية، وساءت حالته ببطء، ثم تدهورت فجأة. وقبلها بيوم، أغلق عيناه ولم يعد قادراً على فتحهما. بينما كانت حالة الفتاة رينا تسوء، لكنها لا تزال مستيقظة. ولم يكن أمامه متسعٌ من الوقت لدراسة خياراته. فقرّر أنّه يجب على الطفل المريض أكثر أن يذهب للعلاج أولاً، وهو الأمر الذي كان أكثر إيلاماً له.
عائلات تعيش على الأكل من أوراق الشجر
تقول الصحيفة البريطانية: في ذلك الوادي بمحافظة حجة الواقعة إلى الشمال الغربي من العاصمة صنعاء، حيث تنتشر البيوت الحجرية على سفوح التلال، كان العديد من أرباب الأسر مثل محمد يعملون باليومية أو داخل مزارع القات.
لكن ارتفاع أسعار الوقود إبان حرب اليمن المُطوّلة أدّى إلى اختفاء الشاحنات التي كانت تُقلهم إلى العمل، حسبما يروي رجال المنطقة. وتوقفت مشروعات البناء التي كانوا يقتاتون منها. كما اشتدت المنافسة على الوظائف الزراعية القليلة، مما ترك العديد من الرجال بدون أي مصدر دخل.
وفي الوقت ذاته، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشدة، ولم تعد الأسر قادرةً فجأة على شراء السلع الأساسية مثل الأرز والخضراوات. حيث سجّل برنامج الغذاء العالمي ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية بنسبة 25% في محافظة حجة خلال العام الجاري.
بينما قالت النساء، اللواتي يُعانين الجوع الشديد، إنّ تلك الظروف جعلتهن شبه عاجزات عن إرضاع أطفالهن بشكلٍ طبيعي. وأزمة الجوع في اليمن منتشرةٌ على نطاقٍ واسع، حيث يعيش العديدون في منطقة محمد على أوراق النباتات المسلوقة فقط تقريباً.
5 ملايين يمني على حافة المجاعة
وكان اليمن قد تجنّب بالكاد الإعلان عن المجاعة في البلاد رسمياً خلال السنوات الأخيرة، وذلك بفضل زيادة تمويل المساعدات الإنسانية. لكن الأمم المتحدة تقول إنّ إدراج البلاد تحت هذا التصنيف سيكون أمراً لا مفر منه إذا لم نتدخل من جديد بشكلٍ عاجل. وهناك 5 ملايين شخص على الأقل على حافة المجاعة بحسب الأمم المتحدة، بينما يعيش 47 ألف شخص في ظروفٍ أشبه بالمجاعة- وبينهم خمسة آلاف شخص من مديرية المغربة التي ينحدر منها محمد.
وهذه الكارثة من صُنع الإنسان بالكامل. حيث إن المشكلة ليست نقص الغذاء، بل العوائق المالية في طريق شراء الطعام.
وقد ألقى الحوثيون باللوم على القيود المفروضة في ميناء الحديدة، باعتبارها سبب أزمة الوقود. كما رفضوا مناقشة الهدنة قبل إعادة فتح مطار صنعاء الخاضع لسيطرتهم، ورفع كافة القيود المفروضة على الميناء.
وفي حين قال محللون من متابعي التطورات في اليمن إنّ القيود المفروضة على الميناء تُسهم في ارتفاع أسعار الوقود، لكن ما يزيد الأزمة سوءاً أنّ الوقود الذي يدخل من المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين يجري تخزينه وبيعه في السوق السوداء مقابل أسعارٍ مرتفعة.
“لقد مات بين يدي”
ومع وصول محمد وزوجته أنيسة إلى المستشفى، وجدوا أنّ تشخيص حالة علي لا يبشر بالخير، إذ أخبرهم الطبيب أن ابنهم كان يُعاني من سوء التغذية الحاد والتهاب في الصدر. قبل أن تفارق روحه الحياة بعد أربعة أيام من وصولهم إلى المستشفى. حيث قالت أنيسة: “لقد مات بين يدي. فعانقته وقبلته، وهذا كل شيء”.
ثم مرت عدة أيام بعد عودتهم إلى المنزل. وحين بدأت عيون رينا تُغلق كما حدث مع علي قبل وفاته؛ أدرك محمد أنها علامةٌ لا تُنذر بالخير. لكن جيرانه كانوا فقراء مثله، ولا يملك أحدهم نقوداً ليقرضه- إذ إنّ رصيدهم عبارةٌ عن ديون تنتظر السداد.
تقول زوجة محمد الثانية، بشرى: “كنا سنأخذها إلى المستشفى لو كان لدينا المال”. فأردف محمد: “لكنها ستموت هنا على الأرجح. فماذا سنفعل؟”.
وبعد أن أغلقت رينا عيونها وبدأت تفقد وعيها وتستعيده بيومٍ واحد؛ علم بحالتها فريقٌ من صحفيي Washington Post الأمريكية كان في زيارة إلى القرية، فتدبروا أمر رحلةٍ مجانية لنقل محمد وبشرى ورينا إلى مستشفى في مدينة حجة في اليوم نفسه.
وبوصولهم، أكّد التشخيص شكوك الطبيب عادل علي العبدلي. إذ كانت رينا تُعاني من حالة سوء تغذية حادة، والتي من شأنها أن تُضعف جهاز المناعة لدى الأطفال وتجعلهم أكثر عرضةً للمرض. وإذا لم يتكفّل الجوع وحده بقتل الطفل الجائع؛ فإنّ الأعراض الجانبية الأخرى تُفضي إلى الموت عادةً.
البعض ينجو وكثيرون لا
يقول العبدلي للصحيفة البريطانية، إن سعداء الحظ الذين يتلقون العلاج من الأطفال؛ يرجعون على الأغلب إلى منزلهم؛ حيث لا تزال نفس الظروف المسببة للمرض قائمة. فيعود بعضهم للعلاج من جديد، بينما لا ينجح البعض الآخر في العودة.
ثم وضع العبدلي لينا على الطاولة، واستمع لأنفاسها التي تلتقطها بصعوبة. وكان يشتبه في إصابتها بالتهابٍ في الصدر. لكنه أوضح أنّ المضادات الحيوية، والحليب المدعم، والفيتامينات ستمنحها فرصةً جيدة في التعافي.
بعدها بحث الطاقم الطبي عن مكانٍ لها داخل غرفتين، حيث تجلس في كل واحدة قرابة العشر شابات من الأمهات مع أطفالهن المصابين بسوء التغذية فوق أحد الأسرّة المصطفة قبالة الحائط.
وكان هناك سريرٌ واحد شاغر ويمكن لرينا أن تنام عليه بحسب العبدلي. ويبدو أنّ رينا- بعكس شقيقها- سوف تنجو من الموت.
*المادة الصحفيه نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن راي الموقع