فرنسا صانعة الطغاة في إفريقيا
السياسية: متابعات : صادق سريع
البلد الاستعماري سابقاً مازال يصنع النخب الحاكمة ورجال السياسة ليحافظ على نفوذه وأرباحه في القارة السوداء “الغنية”
وبحسب تقرير مطول نشره موقع “عربي بوست” ، غادرت فرنسا الاستعمارية إفريقيا “صوريا” في ستينيات القرن الماضي، لكنها تركت خلفها أكثر من “وحش” فرنسي ومحلي.
كل ما يصبّ في مصلحتها كانت تشتريه بأي ثمن.
بإغراء المال وشراء ذمم النخبة الحاكمة بعد الاستقلال.
بالتهديد والملاحقة، حتى لو وصل الأمر إلى الاغتيال بالسم أو الرصاص.
بتوغل الشركات في أوساط السياسة والاقتصاد، والدفع مقابل الولاء.
وبالتدخل العسكري أحياناً لحماية رئيس صديق من انقلاب، أو لتنفيذ انقلاب لصالح رئيس صديق يحكم لاحقاً.
بدأ النفوذ الفرنسي في إفريقيا مع الحقبة الاستعمارية الفرنسية الثانية في 1524، التي جاءت عقب إخفاق فرنسا في امتلاك مستعمرات في أمريكا اللاتينية والشرق الآسيوي.
ومع منتصف القرن التاسع عشر كانت فرنسا قد استولت على غرب ووسط القارة السمراء، بينما كان التبادل التجاري وتجارة العبيد والصمغ العربي والعاج ومختلف المواد الأولية قد بدأت قبل ذلك بقرنين على الأقل.
مكنت فرنسا من السيطرة على أكثر من 35% من مساحة القارة، واستمر حكمها لها أكثر من ثلاثة قرون، في حوالي عشرين دولة إفريقية.
الاستعمار الفرنسي ثقافي الهوية، كان حريصاً على صبغ الهويات الخاصة للشعوب بألوان المسيحية والفرنكفونية.
لكنه كان أيضاً استعماراً دموياً وحشياً، خلد لفرنسا في ذاكرتها التاريخية فصولاً سوداء في تجارة الرقيق، والمجازر البشرية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف، زيادة على نهب الثروات، وتدمير المدن، وحرق المكتبات والمساجد.
بعد الاستقلال توزعت القارة بعد ذلك بين أنظمة فرنسية الصنع والهوى، وأخرى ثورية أو وطنية، سرعان ما تخلصت منها فرنسا، وأقامت وكلاء محليين يحافظون على مصالحها الخالدة.
لم تسمح فرنسا لمستعمراتها السابقة بالخروج من عباءة الزمن الباريسي، وفي سبيل ذلك دأبت فرنسا على إجهاض أي طموح للانشقاق أو اكتساب استقلال ثابت، أو التعامل النِّدي مع الأفارقة.
وقد شهدت القارة الإفريقية منذ العام 1950 حوالي 200 محاولة انقلابية في 7 عقود، كان نصفها على الأقل ناجحاً، وتحكّم منفذوها في مفاصل السلطة.
السطور التالية تشرح كيف حرَّرت فرنسا مستعمراتها شكلياً، وواصلت نهب الشعوب، والتلاعب بالحكام في صناعتهم ووضعهم في مقاعد الحكم بالقوة، أو التخلص منهم عبر الاغتيالات والانقلابات.
مافيا الدولة تتلاعب بإفريقيا شبكة “فرانس أفريك” وأجهزة مخابرات تستبدل أنظمة الحكم بما يخدم مصالح الإمبراطورية الغاربة
قبل رحيلها في 1960، أنشأت فرنسا نظماً سياسية تسمح لها بمواصلة حكم شعوب القارة السوداء.
قامت بإلغاء النظم البرلمانية في بعض الدول كساحل العاج، وإقامة نظم رئاسية بدلاً منها، يمسك رأس الدولة فيها بكل شيء في البلاد.
الفكرة من وراء ذلك أنه “للسيطرة على البلد ينبغي فقط التحكم بشخص يتمتع بكل السلطات”.
وهكذا استمر “الاحتلال” الفرنسي بعد رحيل القوات العسكرية.
كان رئيس الجمهورية الخامسة شارل ديغول يخطط للبقاء أكثر في هذه القارة، لذلك استدعى صديقه جاك فوكار الذي تولى منصب كبير مستشاري الحكومة الفرنسية فيما يخص السياسة الإفريقية بين 1960 و1974، وكلفه بتلك المهمة، أي رسم الجزء الأهم من علاقات باريس بإفريقيا إلى اليوم.
من ذلك التاريخ أصبح رجل الأعمال والسياسي الفرنسي جاك فوكار، الأب المؤسس والراعي للعلاقة الاستعمارية الحديثة بين فرنسا ودول إفريقيا، علاقة حافظت عليها حكومات فرنسا المتتالية دون استثناء، فالدفاع عن “الفناء الخلفي” الإفريقي بقي أولوية تخطيطية أساسية لكل الحكومات.
* حاكم إفريقيا كان اسمه جاك فوكار
ولد جاك فوكار في 31 أغسطس/آب 1913، في أمبريير (ماين)، وتوفي في 19 مارس/آذار 1997 في باريس، قضى طفولته المبكرة في جزر الأنتيل، حيث سيعود لاحقاً.
يعتبر فوكار أحد أبرز الرجال الموثوق بهم من الجنرال ديغول، وهو المسؤول عن المهام السياسية الأساسية الخارجية والحساسة لفرنسا.
تميزت حياته بشكل خاص بنفوذه في إفريقيا، في عهد الجنرال ديغول ثم جورج بومبيدو، وأخيراً جاك شيراك.
قربه من الجنرال شارل ديغول أعطاه حرية الحركة أكثر، فقد كان يشرف على خدمة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس SDECE، وبشكل غير رسمي على خدمة العمل المدني SAC.
كانت الشرارة الأولى لهذه العمليات “السياسية القذرة” هي إدراك فرنسا أن النفط هو إكسير الحياة والنفوذ للإمبراطورية المحتضرة.
ومع استقلال الجزائر عام 1962 فقدت فرنسا امتياز استغلال النفط الجزائري، فقرر ديغول اللجوء إلى المستعمرات السابقة في إفريقيا السوداء المليئة بالثروة المعدنية والنفطية، بهدف استغلال هذه الموارد.
وكان ذراعه الطويلة لتنفيذ هذه المخططات هو جاك فوكار.
كان فوكار آنذاك الرجل الوحيد الذي يُمكنه لقاء ديغول كل مساء، وكانت وظيفته تتلخَّص ببساطة في هندسة أنظمة الحكم في دول إفريقيا، وتثبيت الحكام أو الإطاحة بهم بما يتلاءم مع مصالح فرنسا.
عُرف فوكار بعد ذلك بلقب “سيد إفريقيا”، فكان المسؤول عن تعيين وإقالة رؤساء دول المربع الفرنكفوني في القارة السمراء لعدة عقود من الزمن خلال الجمهورية الخامسة.
عهد له ديغول مهمة هندسة أنظمة الحكم في دول إفريقيا وتثبيت الحكام أو الإطاحة بهم بما يتلاءم مع مصالح فرنسا.
دعم حُكم البعض وزعزعة استقرار الآخرين، بموارد بشرية ومالية كبيرة.
كانت لديه الكلمة العليا في كل الأجهزة السرية والدبلوماسية الفرنسية في إفريقيا، وهدفت أساليبه إلى إبقاء رؤساء الدول في المستعمرات الفرنسية السابقة تحت تأثير باريس.
وهكذا تمت مصادرة الاستقلال الإفريقي وتنظيم الحفاظ على التبعية الإفريقية لباريس: سياسية، واقتصادية، ومالية، وعسكرية.
* جاك فوكار مؤسس شبكة فرانس أفريك
أنشأ جاك فوكار شبكة مركزية قوية حملت إعلامياً اسم “فرانس- أفريك”، بحيث يبقى المسيطر الوحيد على الوضع في القارة الإفريقية.
بدأت الشبكة عملها مع تأسيس الجمهورية الخامسة في فرنسا، ووصول “شارل ديغول” إلى السلطة عام 1958.
وبدأت نشاطها بمنح 14 مستعمرة فرنسية إفريقية سابقة استقلالها في خلال عامين، مقابل اتفاق أمني مع فرنسا، اتضح فيما بعد أنه يشمل بنوداً غير مُعلَنة.
لماذا تضمن الاتفاق بنوداً غير معلنة؟
لأنها تُظهر مدى جشع فرنسا في نهب القارة، فالاتفاق يلزم المستعمرات السابقة بوضع 85% من دخلها تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي.
والتبرير؟
إنها مقابل للبنية التحتية التي ادَّعى الاستعمار تشييدها.
وهكذا جلبت فرنسا إلى خزائنها بموجب هذا الاتفاق مئات المليارات من الدولارات عاماً بعد الآخر.
أعطى الاتفاق فرنسا أيضاً الحقوق الحصرية في الحصول على أي مواد خام تُكتَشف في أراضي مستعمراتها السابقة.
ومنح الشركات الفرنسية أولوية في أي أنشطة اقتصادية في هذه البلاد.
كما احتكرت باريس وحدها عقود التدريب العسكري وحقوق الأنشطة الأمنية في هذه البلدان، التي أجبرها الاتفاق على التحالف مع فرنسا في حال خوضها لأي حرب.
ومازال جنود فرنسا ينفذون المهام القتالية حتى اللحظة في وسط القارة، وآخر عملياتهم كانت في تشاد ومالي وفي غرب إفريقيا.
في السنوات العشر الأخيرة هناك 7 عمليات عسكرية رئيسية قادتها فرنسا في القارة الإفريقية. بعض تلك العمليات يندرج في إطار المبادرات الدولية، لكن نصفها تقريباً كان يتم لخدمة مصالح فرنسا وحلفائها المحليين.
والمخابرات تدعم الديكتاتوريات وتنظم الانقلابات
لم يقتصر عمل شبكة فرانس أفريك على المجال المالي والاقتصادي.
لا حدود أمام مصلحة فرنسا العليا في إفريقيا، حتى وإن اقتضى الحال تغيير رؤساء عبر الانقلابات والاغتيالات السياسية ودعم ديكتاتوريات وغض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان.
وأولى الضربات الملتوية في عهد فوكار كانت بمثابة جريمة دولة.
نهاية عام 1960 جرى تسميم المعارض الكاميروني فيليكس مومييه في مطعم بجنيف.
وفي يناير/كانون الثاني 1963، عمدت المخابرات الفرنسية إلى الانقلاب على سيلفانوس أولمبيو، رئيس توغو، لأنه تجرّأ وأصدر عملة توغو الوطنية.
في بداية 1964، أطاح الجيش الغابوني في انقلاب غير دموي بالرئيس ليون إمبا، وبعد يومين فقط قامت القوات الفرنسية بعملية إنزال في ليبرفيل وأعادت حليفها إلى الحكم.
وتوالت الضربات التي تستعصي على الإحصاء، وظل فوكار لعقود عدة متحكماً في المشهد السياسي والاقتصادي في إفريقيا.
كان بمثابة “رجل الظل” الذي يحرك الخيوط وفق ما تقتضيه مصلحة فرنسا العليا في إفريقيا السمراء، ما جعل العديد يعتبره “سلطة حقيقية داخل السلطة”.
وتشير بعض التقارير إلى أن فرنسا تدخلت عسكرياً في إفريقيا نحو خمسين مرة منذ عام 1960 حتى نهاية العقد الثاني من الألفية الجديدة.
ولباريس فرق استخباراتية وأمنية تنشط في القارة السمراء لمساعدة الدولة الفرنسية على تنفيذ خططها هناك دون معارضة أحد.
وكانت المخابرات تعمل حين تعجز الدبلوماسية والجنود.
وحين رفض الرئيس الغيني أحمد سيكو توري اتفاقية التبعية السياسية والاقتصادية لفرنسا بعد مؤتمر برازافيل سنة 1944، أغرقت المخابرات الفرنسية غينيا بالعملات المزيفة فدمرت اقتصادها.
من يرفض من القادة الأفارقة التعاون مع باريس يتم قتله، أو يكون ضحية انقلاب عسكري.
ومن يطيع الأوامر يتلقى المكافأة والدعم من فرنسا، وينعم بحياة رغدة، بينما تغرق الشعوب في بؤس وفقر مدقع.
شراء النخبة السياسيةفرنسا تسيطر على البلد من خلال التأثير على الحكام بالأموال والتبعية الثقافية و”عقيدة” الفرنكوفونية
في عام 1962 طلب الرئيس الفرنسي شارل ديغول من أحد مستشاريه صياغة علاقة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في إفريقيا.
وكان الرجل هو جاك فوكار، الذي سيحمل لاحقاً لقب “مهندس الاستعمار الفرنسي” الحديث لإفريقيا.
واستهدف الاستعمار الجديد النخب المحلية في المستعمرات السابقة، لتصبح ممثلة لمصالح فرنسا ضد مصالح الشعوب.
تلك العلاقة بين القادة الفرنسيين والنخب الحاكمة في البلدان المستقلة حديثاً كانت “غير شفافة وأبوية وتتسم بالتحكم”.
أبرم فوكار عقوداً مع حكام تلك البلدان لا تزال سارية حتى اليوم:
مقابل الحماية العسكرية والتحصين ضد الانقلابات وبعض ملايين الدولارات كعمولات، تحولت معظم النخب الحاكمة إلى مجرد “وكلاء” لسادة الإليزيه.
ضمنت الدول الإفريقية للشركات الفرنسية استغلال الموارد الاستراتيجية كالألماس واليورانيوم والغاز والنفط.
وضمنت فرنسا للوكيل حماية الكرسي والمنصب ضد غضب شعبه، أو انقلاب جنرالاته.
والنتيجة اليوم هي هذا الوجود الفرنسي الملحوظ في القارة:
1100 شركة كبرى.
و2100 شركة متوسطة وصغيرة.
وثالث أكبر محفظة استثمارية بعد بريطانيا والولايات المتحدة.
ارتبطت إفريقيا بفرنسا، التي استغلت عامل اللغة والثقافة لتسيطر على الثروات الإفريقية.
انتشرت المؤسسات الفرنسية في ربوع القارة لتقيم مشاريع متعددة ومختلفة القطاعات.
استثمارات توتال في قطاع النفط والطاقة.
إلستروم في النقل.
وبويغ في البناء والعقار.
أورانج في الاتصالات.
بي إن بي باريبا والشركة العامة في قطاع البنوك.
كل هذا بالإضافة إلى صفقات الطائرات لشركة إيرباص، وكذلك صفقات السلاح الفرنسية.
كل هذه الأيقونات الفرنسية استفادت من الموارد الإفريقية واستغلت رخص الأيدي العاملة، وكثيراً من الأحيان ضعف القانون عبر دعم سياسي للديكتاتوريات الإفريقية مقابل الحصول على امتيازات ضريبية ورقابية.
* ديكتاتوريات تُمهد لها فرنسا وتحميها.
وطغاة تصنعهم على أعينها ليكونوا حراساً لمصالحها ما طلعت الشمس على القارة الحزينة.
* دليلك الفرنسي لصناعة النخبة العميلة
يُعرف عن الاستعمار الفرنسي أنه احتلال ثقافي.
هو خبير في امتصاص خيرات الثروة، أو إشعال فتائل الأزمات الاجتماعية.
لكن حرصه الأول هو توجيه أجيال المستقبل والتحكم في الهوية الثقافية للشعوب المستعمرة، وخصوصاً في إفريقيا.
ولقد كان من أهم أهداف الاستعمار الفرنسي “تحديث الشعوب البدائية” في إفريقيا، وكانت اللغة والثقافة الفرنسية هي الإطار الأساسي لصناعة هذا التحديث، وذلك عبر مرحلتين:
1- التعليم يصنع نخب الاستقلال
معظم الرموز السياسية للنخب الحاكمة في إفريقيا الفرنسية تعلموا في المدارس الفرنسية، وتشرَّبوا اللغة والثقافة الفرنسية، وانخرطوا بقوة في الأيديولوجيا الفرنسية.
2- عقيدة الفرنكفونية تغسل العقول وتضمن الولاء
تحولت الفرنكفونية من لغة إلى أيديولوجية قوية التأثير، وارتبطت في إطار واحد مع “اللائكية”، أو العلمانية.
اللغة الفرنسية في إفريقيا كانت سلاحاً حقّق لفرنسا أكثر مما حققته الجيوش، مثل التحكم في الهوية الثقافية، وربط النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية الإفريقية بفرنسا بشكل كامل.
ومع ذلك تبقى الفرنكفونية جزءاً أساسياً من الهوية الإفريقية، ومن المستبعد أن تفقد قوتها في المستقبل المنظور.
والشركات تدفع لشراء الذمة والولاء
اهتزت فرنسا في تسعينيات القرن الماضي بفضيحة اسمها “إيلف” Elf، أي العفريت.
الشركة النفطية التي تأسست في أواسط ستينيات القرن الماضي كانت حلماً للرئيس ديغول بعد فقدان البترول الجزائري.
بعد انفجار الاتهامات لاحقت العدالة رجال أعمال وساسة فرنسيين وأفارقة، أبرزهم حينها وزير الخارجية الاشتراكي رولان ديما، وشكلت عنواناً بارزاً ومفصلاً حدياً في علاقات فرنسا بإفريقيا والشبكات القائمة عليها منذ عهد الجنرال ديغول المعروفة بشبكات “فرانس-أفريك”.
* ماذا فعلت الشركة؟
جوهرُ الفضيحة هو عمليات اختلاس وتزوير واسعة استحوذت بموجبها مجموعة من أطر شركة إيلف آكيتين البترولية Elf Aquitaine ورجال أعمال وساسة فرنسيون وأفارقة على أكثر من 300 مليون يورو من أموال الشركة المملوكة للدولة بين عامي 1989 و1993.
ثم وقعت عمليات أخرى مشبوهة تُصنف في نطاق الفضيحة طيلة العهدة الرئاسية الثانية للرئيس فرانسوا ميتران.
أظهرت التحريات وجود شبكة واسعة تمارس الرشوة والتزوير في إجراء تحويلات مالية كبيرة تم جنيها من نشاطات الشركة في إفريقيا. وكانت الغابون أول وجهةٍ لشركة إيلف، حيث أقامت آبارها الأولى هناك ثم توسعت لاحقاً ورسخ وجودها إلى أن صارت محدداً أساسياً لعلاقات فرنسا وإفريقيا.
ويتم توجيهها إلى فرنسا عبر مصارف أوروبية، خاصة المصارف السويسرية خدمة لرجال سياسة وأعمال فرنسيين وأفارقة.
ماذا نفهم من صرف مخصصات مالية ضخمة لرجال سياسة في إفريقيا؟
ولماذا تدفع لهم شركة تعمل بالنفط؟
إنها “المافيا” الإفريقية التي أسستها فرنسا المنسحبة عسكرياً، والباقية اقتصادياً وسياسياً.
إنهم الوكلاء المحليون لباريس، يحصلون على هذه الأموال لتسهيل نهب ثروات بلادهم، والمزيد من التجويع للشعوب العاجزة.
وفي القضية مثل 37 شخصاً أمام منصة العدالة، حُكم على 30 منهم بالسجن لفترات متفاوتة، وبإعادة الأموال التي حصلوا عليها في سياق الفضيحة التي استمرت حتى عام 2007.
وما خفي كان أعظمالدوافع الاقتصادية كانت وراء عمليات فرنسا العسكرية وتدخلاتها غير الأخلاقية في أنظمة الحكم
خلال زيارة إلى بوركينا فاسو نهاية عام 2017 وجه الرئيس الفرنسي ماكرون نداء مؤثراً للأفارقة الناطقين بالفرنسية حتى لا يتخلوا عن لغة القوة الاستعمارية السابقة ويتحولوا إلى الإنجليزية. “إن التخلي عن اللغة الفرنسية من أجل جعل الإنجليزية لغة شائعة في القارة الإفريقية يعني أنك لا ترى المستقبل”.
وقال إنه “من جيل لا يملي على الأفارقة ما يجب أن يفعلوه”، معتبراً أن “اللغة الفرنسية لم تعد فرنسية فقط لكن أيضاً ربما أكثر إفريقية”.
وإفريقيا هي الأولوية رقم 1 في السياسة الفرنسية منذ القرن التاسع عشر، والأسباب كثيرة.
تعزيز مرتبة فرنسا في الأمم المتحدة بكثرة الدول التابعة لها.استباحة الموارد الطبيعة الاستراتيجية.تعزيز دور فرنسا بصفتها الوسيطة بين الدول الإفريقية وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
ولو كانت هناك كلمة واحدة تلخص السبب الحقيقي في هذا العشق الفرنسي للقارة فهي “التجارة” في اتجاهين:
الموارد الطبيعية من إفريقيا إلى فرنسا.والسلاح والمنتجات الصناعية من فرنسا إلى إفريقيا.
ومن أجل التجارة تلاعبت باريس بالأنظمة الحاكمة في مستعمراتها السابقة، وشنت الحروب، ونفذت الاغتيالات، وسالت الكثير من الدماء، كما يظهر من الأمثلة التالية.
* عقاب غينيا أحمد سيكوتوري
كانت البداية في غينيا، حيث يحكم الرئيس “أحمد سيكو توري” الذي قاد حركة الاستقلال عن فرنسا في منتصف الأربعينيات، ثم أعلن الاستقلال في 1958، بعد أيام من رفض بلاده، عبر استفتاء شعبي، الانضمام إلى “مجموعة” فرنسية-إفريقية اقترحتها باريس.
وسرعان ما قرَّرت باريس معاقبته عبر حرمانه من “امتيازاتها الاستعمارية”.
على الفور غادر ثلاثة آلاف فرنسي غينيا، مُحمَّلين بأموالهم وأملاكهم، ومُدمِّرين لكل ما لا يستطيعون حمله، كالمدارس وحضانات الأطفال، والمباني الإدارية والسيارات والمعدات، بل إنهم حرقوا مخازن الغذاء وقتلوا الماشية والأبقار.
سحبت أسلحة الشرطة والدرك، وأوقفت إنشاء الطرقات والمدارس وتدريب الكوادر الإدارية للدولة الوليدة.
وسلَّحت مُعارضين غينيين من أجل الإطاحة بالرئيس المتمرد على سلطة فرنسا.
لكن سيكو توري نجح في مواجهة كل هذا الحصار، وحلق ببلاده بعيداً عن المجال الجوي الفرنسي.
يعتمد اقتصاد غينيا على الزراعة وإنتاج المعادن، فهي ثاني أكبر منتج لخام الألومنيوم في العالم، ولديها رواسب غنية من الألماس والذهب.
* إنقاذ الحليف في ساحل العاج 2011
وفرنسا تنقذ رجالها المخلصين، حتى لو كان ذلك تحت لهيب القنابل والصواريخ.
في أبريل/نيسان 2011، حلّقت الطائرات الفرنسية بكثافة في سماء أبيدجان، عاصمة ساحل العاج.
بعد قليل أطلقت صواريخها على مستودعات للأسلحة حول المدينة، انفجرت تحت القصف، وحوّلت ليل أبيدجان الهادئ إلى ساحة للألعاب النارية المخيفة.
ثم أحاط جنود الاحتلال بالقصر الرئاسي، حيث الرئيس الذي تكرهه فرنسا، لوران غباغبو.
الرجل كان قد خسر الانتخابات قبل ساعات، ورفض الاعتراف بالهزيمة أمام رجل فرنسا، الحسن واتارا.
وفي خضم الاشتباكات بين قوات الجيش الموالية لغباغبو والمسلحين الموالين للرئيس الجديد، انقسمت البلاد فعلياً تحت سيطرة حكومتين، قبل أن تتدخَّل فرنسا من جديد بغطاء دولي وتعتقل غباغبو، وترسله إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وفي إفريقيا الوسطى مع الإمبراطور ثم ضده
سنة 1979، أوقفت فرنسا مساعداتها لجمهورية إفريقيا الوسطى بحجة انتهاك حقوق الإنسان.
وكان الخبر غريباً من عدة وجوه.
البلد كان ضمن الشبكة “المطيعة” لتوجهات فرنسا منذ استقلالها في عام 1960.
والإمبراطور جان بيدل بوكاسا كان ضابطا بجيش الاحتلال، ثم أصبح وزير الدفاع بعد الاستقلال.
لكنه الآن متهم بقمع الطلبة والمعارضة في البلاد.
ولم يكن هذا صحيحاً.
السبب الحقيقي الذي جعل فرنسا تنقلب على رجلها كان تقارب بوكاسا مع الرئيس الليبي معمر القذافي.
في سبتمبر/أيلول 1979 كان بوكاسا في ليبيا، عندما تم إطلاق عملية عسكرية لطرده من السلطة.
سقطت العاصمة بانغي تحت سيطرة القوات الفرنسية، التي أعادت الرئيس السابق لجمهورية إفريقيا الوسطى ديفيد داكو للحكم.
تدخل فرنسا في هذا البلد المليء باليورانيوم لم يقتصر على طرد الإمبراطور جان بيدل بوكاسا من الحكم ونفيه، بل شمل المعارضة أيضاً، فقد اخترقت المعارضة التي تتنافس على خلافة بوكاسا، وأصبحت تقرر الأسماء التي يتم نفيها نهائياً، وتلك التي يمكنها العودة للبلاد.
* تشاد مندوبة فرنسا للتدخلات العسكرية
في عام 1983 هبطت طائرة هليكوبتر عسكرية فرنسية فوق الأراضي التشادية لتبدأ بذلك عملية مانتا العسكرية بطلب من الرئيس التشادي السابق حسين حبري، “صديق” فرنسا.
كان حبري يواجه تمرداً في شمال البلاد، استغرق التخلص منه عاماً كاملاً، سقط خلاله عشرات القتلى من الجانب الفرنسي.
وفي فبراير/شباط 1986 انتشرت قوات فرنسية على الحدود مع ليبيا، بعد عبور الجيش الليبي إلى أراضي تشاد. وجاء الجيش الفرنسي لحماية الرئيس الصديق غوكوني.
ثم أعلن إدريس ديبي نفسه رئيساً لتشاد في عام 1991، واستطاع الفوز في أول انتخابات رئاسية في البلاد عام 1996، بعد تأسيس نظام يهدف إلى التعددية الحزبية وصياغة دستور للبلاد.
لكن ديبي نسي وعوده لشعبه، وخصخص الشركات الحكومية لصالحه، وجعل شركة القطن التشادية الثرية مورداً للتسليح وشراء الذمم.
رغم ذلك برز اسم ديبي كأحد الجنود المخلصين لفرنسا في دول الساحل، وسخّر إمكانيات الجيش التشادي لقتال الأنظمة الإفريقية التي تغضب منها فرنسا.
شارك جيش تشاد/ ديبي في الاضطرابات العسكرية في إفريقيا الوسطى، والحرب على المعارضة في مالي، وقتال الجماعات المتطرفة بالكاميرون والنيجر ونيجيريا.
وبمقتل إدريس ديبي إتنو أبريل/نيسان 2021 انطوت صفحة ربما كانت أسوأ ما أنتجت الديكتاتورية الإفريقية المتدثرة بالغطاء الفرنسي.
* أخيرا: فرنسا خرجت من إفريقيا.. لتبقى
في خريف 2020 نشرت صحيفة لوموند، في تقرير مفصل لها، وثائق سرية فرنسية تكشف عن مخطط لتصفية واعتقال مواطنين فرنسيين وأوروبيين، كانوا يساندون ثورة التحرير الجزائرية بين 1954 و1962.
واستندت الصحيفة إلى ملفات سرية، ومذكرات شخصية لجاك فوكارت، كاتم أسرار الجنرال ديغول، وغيرها.
وبحسب ما تكشف الوثائق، كان المخطط السري يقوم على سلسلة من التهديدات والاعتداءات والهجمات التخريبية والاغتيالات الموجهة.
وأوكلت أعمال الاغتيال والهجمات لفريق العمليات في مصلحة التوثيق الخارجي وخدمة مكافحة التجسس Sdece، وهي التي باتت تعرف اليوم باسم المديرية العامة للأمن الخارجي (DGSE).
وفرنسا التي كررت اعتذارها عن جرائم الاحتلال بحق الشعوب الإفريقية، لم تتوقف لحظة عن التدخل في شؤون مستعمراتها السابقة، بل وبعض جيرانها.
قد يتغير الاحتلال العسكري إلى سيطرة ناعمة، سياسية واقتصادية.
قد يتغير اسم شركة “إيلف” صاحبة الفضيحة القديمة إلى شركة “توتال”، كما حدث بالفعل.
لكن جوهر العمل السياسي والعسكري لفرنسا لا يغير جوهره، ولا أهدافه.
فرنسا لم تخرج من إفريقيا نهائياً، وإنما خرجت لتبقى بشكلٍ آخر للمحافظة على مصالحها.
إفريقيا بالنسبة إلى فرنسا مصدر حياة لا يجب التخلي عنه.
خرجت فرنسا من مستعمراتها، وبقيت روحها ويدها الطويلة وعصاها الغليظة، القادرة على تغيير خرائط السلطة والثروة والنفوذ حينما تشاء، كيفما تشاء.
لكنها تركت رجالها الذين صنعتهم على أعينها ليعيثوا في شعوبهم بطشاً وفساداً.